راسم عبيدات الكثيرون كانوا يراهنون على أن خطاب هنية سيتضمن قراراً لـ"حماس" بحل لجنتها الإدارية الخاصة التي شكلتها لإدارة أوضاع القطاع، على اعتبار أن ذلك قد يفسح المجال أمام إعادة إطلاق حوار جاد ما بين طرفي الإنقسام (فتح وحماس)،
من أجل إستعادة الوحدة الوطنية وإنهاء الإنقسام.. ولكن خطاب هنية لم يتضمن مثل هذه الخطوة، مشترطاً حصولها بتراجع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية عن كل إجراءاتها وخطواتها العقابية التي اتخذتها بحق قطاع غزة، من تخفيض لرواتب العاملين في السلطة بالقطاع بنسبة 30% إلى رفض دفع فاتورة ثمن كهرباء القطاع للشركة الإسرائيلية والطلب منها بتخفيض تزويد القطاع بالكهرباء وعمليات التقاعد المبكر القسرية بحق العاملين في السلطة في القطاع ووقف التحويلات الطبية للحالات المرضية الخطيرة وغيرها.. وهنية قال بأن حل اللجنة الإدارية التي عينتها "حماس" لإدارة القطاع سيكون بعد ذلك حاصل تحصيل، ومهم جداً ما طرحه هنية في خطابة من أن أبرز أولويات الحركة في المرحلة المقبلة والتي تتمثل في مواجهة الاحتلال الغاشم لأرضنا ومقدساتنا وإجراءاته المخالفة للأعراف والقيم وقواعد القانون الدولي، سواء ما تعلق منها بالقمع أو الحصار أو مصادرة الأراضي أو التهويد أو الاستيطان.
والتشديد على أن السلاح الفاعل في مواجهة ذلك هو وحدة الموقف الفلسطيني الذي يستند إلى رؤية سياسية وطنية جامعة توحّد الجهود وتتحرّر من الرّهانات على الوعود الكاذبة التي جرّبها شعبنا الفلسطيني طول مسيرة المفاوضات.. ودعا كل الفصائل الفلسطينية إلى التجاوب مع المبادرة السياسية التي طرحها.. المستندة إلى صياغة برنامج سياسي موحد يستند إلى القواسم المشتركة، ويرتكز على أهداف شعبنا وحقوقه وتطلعاته، وتشكيل حكومة وحدة وطنية فوراً تفي بكل إلتزاماتها تجاه شعبنا في الضفة والقطاع على حد سواء.
يبدو بأن توقيت خطاب هنية التنصيبي قد جاء، بعد أن استطاعت "حماس" أن تبعد حبل المشنقة التي كان يلتف حول رقبتها، والهادف بالأساس إلى دفع الناس في القطاع للتمرد على حكمها، نتيجة الإجراءات العقابية القاسية التي اتخذتها السلطة بحق أهل القطاع قبل حكومة "حماس"، وكذلك التطورات والتغيرات في المواقف العربية من الحركة، وخاصة بعد زيارة ترامب للسعودية والمنطقة، وما حملته تلك الزيارة من تجريم للحركة ووصفها بأنها حركة إرهابية، وبموافقة عربية، ولتصاعد تلك الخطوات بعد الأزمة القطرية مع دول الرباعية العربية (السعودية، الإمارات العربية، البحرين ومصر)، بطلبها من قطر طرد القيادات الإخوانية وقيادات حركة "حماس"، وقطر التي خصّها هنية بالشكر لدورها في دعم القطاع والمساهمة في تحسين ظروفه الاقتصادية والمعيشية، هي مقر إقامة قيادة "حماس" السياسية، والتي أكد مدير المخابرات المركزية الأمريكية السابق والأمين العام للأمم المتحدة "غوتيريس"، بأن تلك الإستضافة تمت بطلب أمريكي، وكذلك قطر شريان مالي لـ"حماس" ومؤسساتها على درجة كبيرة من الأهمية، وبالتالي الطرد وإغلاق هذا الشريان، والإتهامات بالإرهاب، كلها ستشكل عوامل ضاغطة على استمرار سلطة "حماس" واستقرارها في قطاع غزة، ولذلك كانت ملزمة بالتحرك بما ينقذ حكمها ويحميه في القطاع، وبما يمكنها من التحرر من هذه الضغوط، وشنّ هجوم معاكس على سلطة عباس، هجوم يضرب تلك السلطة في عصبها الأساسي، من خلال توجهها للقاء والتفاوض والإتفاق مع خصمها السياسي، عضو اللجنة المركزية المفصول وعضو المجلس التشريعي محمد دحلان، وبمشاركة ومباركة مصرية، اتفاق من شأنه أن يحقق لها تحسين ظروف القطاع الاقتصادية وتحقيق المصالحة المجتمعية، على طريق مصالحات أوسع، ويدعم علاقاتها مع مصر، وبما يضمن انفراجات حقيقية بفتح معبر رفح بشكل دائم، والأهم من ذلك، لا يجعلها مستهدفة من التحالف الرباعي العربي، والذي يريد أن يخرجها من تحت عباءة قطر، ولذلك شدد هنية على إستعادة مفردات خطاب "فتح" القديم بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية.
متفق تماماً مع جوهر خطاب هنية بأن هناك من يراهن على الحلول الأمريكية والتي جوهرها إسرائيلي، الرهان على "إستحلاب" الثور، وبأن تلك الحلول تستهدف تصفية القضية بشكل نهائي، ولكن نحن ندرك تماماً بأن سحب الذرائع لوقف مسلسل العقوبات بحق القطاع من قبل السلطة الفلسطينية، كان يتطلب من هنية و"حماس" القول أن اللجنة الإدارية يجري الإستعاضة عنها بلجنة وطنية مجتمعية تقود أوضاع القطاع، مقابل تراجع السلطة عن إجراءاتها العقابية، ويستتبع ذلك تشكيل حكومة وفاق وطني فلسطيني تدير أوضاع القطاع والضفة الغربية، على أن يجري التوافق على برنامج سياسي موحد، وشراكة سياسية حقيقية ولحين التقرير بشأن الانتخابات التشريعية والرئاسية، يكون الإطار القيادي المؤقت الذي تتمثل فيه كل المكونات والمركبات السياسية الفلسطينية، هو المشرف والمقرر بشأن كامل الحركة السياسية الفلسطينية.
أنا أدرك تماماً بأن الوضع الداخلي الفلسطيني سيتجه نحو التعقيد والتصعيد، وسترتفع حدة المناكفات الداخلية، ولن يكون من السهل التوافق على برنامج سياسي موحد، وبأن المعركة والحرب الدائرة بين طرفي الإنقسام، ستكون على من هو صاحب القرار، وأدرك تماماً أيضاً أنه في ظل هذا الوضع الفلسطيني الضعيف، فإن الإحتلال وأمريكا ماضون في مشاريعهم المستهدفة تصفية القضية الفلسطينية، وخصوصاً بأن أطراف عربية تبدي إستعدادها للموافقة على "حل" للقضية الفلسطينية من خلال إطار إقليمي يتجاوز حل الدولتين، وبما يتفق ويتوافق مع الرؤيا والطرح الإسرائيلي، وما طرحه الخبير في الشؤون الجيوسياسية وأحد أقطاب مؤتمر "هرتسليا" الذي يرسم الإستراتيجيات للدولة العبرية وسبل مواجهة الأخطار المحدقة بها "أوفير إسرائيلي" في مقالة نشرتها صحيفة "جيروسلم" الإسرائيلية، حول ما يسمى بمبادرة السلام الإسرائيلية، تلك المبادرة القائمة على إقامة كيان فلسطيني "مزدهر" عبر كونفدراليتين فلسطينية – مصرية للقطاع وفلسطينية أردنية للضفة الغربية، مع بقاء القدس موحدة وغير مقسمة وعاصمة لدولة الاحتلال والإعتراف بيهودية.. تلك هي الرؤيا الإسرائيلية للسلام التي تتبناها الحكومة الإسرائيلية.. ولذلك ما يشهده الوضع الفلسطيني من أزمات ومناكفات وعمليات تحريض وتعقيدات، واستقواء بالخارج عربياً وإقليمياً، من شأنه أن يجعل طرفي الإنقسام شركاء في جريمة ذبح وتصفية مشروعنا وقضيتنا الوطنية، فهل ترتقي تلك القيادات إلى مستوى المخاطر والتحديات التي تواجه قضيتنا ومشروعنا الوطني، أم ستستمر في الدوران في الحلقة المفرغة وحروبها الداخلية ومناكفاتها وعبارات التخوين والتفريط والإستسلام حتى يلتف حبل المشنقة فوق رقبة الجميع..؟