بمعزل عن المواقف المتباينة، حد التناقض بين الفصائل الفلسطينية بشأن المفاوضات، كخيار، وكواقع عملي راهن، وتصاعد النداءات للقيادة الفلسطينية بالمبادرة إلى الانسحاب من المفاوضات الجارية،
التي ينتهي أمدها الأولي قبل نهاية هذا الشهر، ومنها بيان وقّع عليه عشرات الأكاديميين الفلسطينيين والعرب، من المنصف أن نرى الجزء الممتلئ من الكأس.
المفاوضات الجارية، إن انتهت عند نهاية الشهر، أو تم تمديدها أشهراً أخرى، هي معركة تكتيكية، أجاد في خوضها الطرف الفلسطيني حتى الآن، وفق معايير الحكم على طبيعة الأهداف من وراء استئناف المفاوضات أو تمديدها.
البعض يحاول تقزيم المسألة، بالقول، إن الإفراج عن عشرات أو مئات الأسرى، كهدف مقابل مواصلة المفاوضات، أمر لا يستحق المغامرة، ويستدرك هؤلاء بكيل قصائد المديح للأسرى الأبطال، وتأكيد الحرص على الإفراج عنهم.
بعض آخر، يتحصن بموقف مبدئي رافض للمفاوضات الجارية، بسبب موازين القوى، والتي لن تعطي الفلسطينيين تسوية تعيد لهم حقوقهم كاملة، استناداً لقرارات الشرعية الدولية، فيما يشكك البعض في المفاوض الفلسطيني، وما إذا كان متمسكاً بالقدر الكافي، بالثوابت الفلسطينية، ورفض أي تنازلات تمسّ هذه الحقوق أو بعضها.
النصائح والمتوجبات التي يطرحها هؤلاء وأولئك، تذهب بعيداً عن الواقعية السياسية، وتطلق شعارات ومفردات، واستراتيجيات جذرية، ثوروية، غير مدروسة، تقترب من إعلان انتفاضة شاملة على الذات، وحرب على الآخر الإسرائيلي، حتى لو تطاولت شراراتها المجتمع الدولي.
ربما كان على الفلسطينيين ان ينتفضوا على أوضاعهم الداخلية، على انقساماتهم، على خياراتهم واستراتيجياتهم في المواجهة، على أوضاع ودور منظمة التحرير الفلسطينية، على دور التجمعات الفلسطينية في الشتات والمهاجر، ونحو استعادة وحدتهم، وإعادة بناء مؤسساتهم الوطنية، وهويتهم الجامعة، والاتفاق على قواعد جديدة لتنظيم العلاقات الداخلية الوطنية في اطار المؤسسة واستناداً إلى القانون.
وربما كان عليهم أن ينشطوا مختلف أشكال المقاومة الشعبية والسياسية والاقتصادية، والثقافية، وأن يستجمعوا كل قواهم، ولكن في كل الأحوال، لا يمكن التفكير بإقصاء المفاوضات كشكل من أشكال النضال لا اليوم ولا غداً.
باختصار لا يمكن في الزمن الراهن العودة الى لاءات الخرطوم، لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض، إلاّ حين يمتلك الفلسطينيون القدرة على مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، بكل امتداداته وتحالفاته على المستوى الدولي، والزمن العربي، والفلسطيني بما هو عليه، لا يسمح بذلك.
بظني أن فلسطينياً واحداً، لم يعد يراهن على إمكانية، تحقيق تسوية، وانتزاع حقوق من خلال المفاوضات الجارية، حتى لو تم تمديدها والأرجح أن يتم ذلك، فالهوّة واسعة جداً بين الشروط والأطماع الإسرائيلية وبين الحقوق الفلسطينية، واسعة إلى الحد الذي لا يسمح للمفاوض، بأن يتنازل عن الثوابت الفلسطينية، حتى لو أنه أراد ذلك.
وقد تكون الهوّة أقلّ اتساعاً بين المواقف والسياسات الأميركية بهذا الخصوص، وبين التطلعات والحقوق الفلسطينية ولكنها، لا يمكن جسرها، بما يستجيب للثوابت الفلسطينية.
وفي رأيي فإن المفاوضات الجارية لها أهداف أخرى سياسية، قد تكون تكتيكية اليوم، ولكنها قد تتحول إلى أهداف استراتيجية لاحقاً.
من حيث المبدأ، تتيح قواعد العمل السياسي، الاشتغال على تعميق التناقضات والتعارضات داخل صفوف الخصم، والخصم هنا ليس إسرائيل فقط، وإنما كل من يناصرها، ويتحالف معها، ويقدم لها الدعم، وكل من يتنكر لقواعد وقرارات الشرعية الدولية.
ألا يستحق العناء إحداث تغيير أو تطوير للمناخ الدولي الذي يتعاطى مع قضية الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي، سواء بتوسيع دور وتضامن الرأي العام الأوروبي والأميركي والدولي عموماً، مع قضية الشعب الفلسطيني، أو إقناع مستويات القرار في الدول المتحالفة مع إسرائيل، بأن استمرار دعمها الأعمى، لسياسة ومخططات المحتل الإسرائيلي، من شأنه أن يلحق أضراراً بمصالحها، وبمنظوماتها القيمية؟ والسؤال هو، هل ستكون مواقف الدول بعد مرحلة فشل المفاوضات، التي تتحمل إسرائيل عنه المسؤولية، كما هي قبل المفاوضات، خصوصاً حين يتوجه الطرف الفلسطيني إلى الأمم المتحدة، لتحقيق المزيد من الإنجازات، أو لعزل إسرائيل ومحاكمتها؟
للمرة الأولى منذ عشرات السنوات يضطر وزير الخارجية الأميركي لأن يحمل إسرائيل المسؤولية عن "فشل" المفاوضات، وأن يعترض على القرصنة الإسرائيلية على عائدات الضرائب الفلسطينية.
الأوروبيون تقدموا على الموقف الأميركي حين اتخذوا قراراً بمقاطعة بضائع المستوطنات، والتوقف عن الاستثمار فيها، أو التعامل مع من يستثمرون فيها.
وفي أوروبا، ظواهر للمقاطعة تتسع يوماً بعد الآخر، وفي آخر ما سمعناه عن كاثرين آشتون، تطلعها وحثها الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على مواصلة المفاوضات من أجل إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس. ولكن بالإضافة الى ذلك، لا يمكن التقليل من هدف الإفراج عن مئات الأسرى ذوي المحكوميات العالية، حين يمكن تحقيق ذلك من خلال المفاوضات.
وكذلك الحال لو أن الطرف الفلسطيني نجح في أن يحصل على تعهد بتجميد الاستيطان أو إبطاء وتائره، ففي كل الأحوال إسرائيل ماضية في مخططاتها.
في الواقع، من المناسب، أن يتجنب الفلسطيني، الوقوع في خطأ تحمّل المسؤولية عن فشل المفاوضات، ذلك أن إسرائيل ستفعل كل ما يجعلها هي في دائرة الاتهام.
بدأت إسرائيل بخطوة، حين رفضت الإفراج عن الدفعة الأخيرة من الأسرى، ما أدى إلى خطوة مقابلة بالتوقيع على خمس عشرة معاهدة ومؤسسة دولية، وقد أصبح هذا الإنجاز من خلفنا، ولا يجوز إثارة أسئلة للتشكيك في قيمة وأهمية هذا الإنجاز، أو محاولة تقزيمه فيما إسرائيل جنّ جنونها.
إسرائيل أدخلت نفسها في نفق، اتخاذ إجراءات عقابية تنتمي إلى ردود الفعل، الأمر الذي يبرر للفلسطينيين أن يردوا على هذه الإجراءات، دون أن يتعرضوا لملامة أحد.
من ذلك على سبيل المثال، اتخاذ قرار بوقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، بعد أن أوقفت حكومة نتنياهو التعامل مع المؤسسات الفلسطينية باستثناء الأمن والمفاوضات.
العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم، ولا بد من أن تحشر إسرائيل في الزاوية لأنها البادئة بالاحتلال والعدوان، والعقوبات الظالمة. ألا يستحق ذلك عناء تحمّل عبء مفاوضات صعبة؟