خلال حديثه لصحيفة "النيويورك تايمز" الأميركية مؤخراً، وجه الرئيس محمود عباس سهماً آخر إلى صدر إسرائيل، حين قدم بعض الأفكار التي تتسم بالمرونة،
والأهم حين وافق على تمديد المفاوضات، ارتباطاً بجدواها. بإمكاننا القول إن الرئيس يقود معركة سلام، لا تريده إسرائيل، لا شك أنها ستترك آثارها الإيجابية على الرأي العام العالمي، وهو هدف مشروع ويستحق عناء العمل، وتحمُّل الكثير من الملاحظات والانتقادات.
لا يمكن اعتبار موافقة الرئيس على استئناف المفاوضات، في حال بدا أنها تقدم إشارات إيجابية، نقول لا يمكن اعتبار ذلك تنازلاً، أو تفريطاً، إلاّ بالنسبة لكل من يرفض من الأساس وعلى نحو قاطع وشامل مبدأ المفاوضات في ظل الظروف الحالية ذلك ان لا أحد يرفض من حيث المبدأ، التفاوض مع إسرائيل، إلاّ ان تحصن بالعدمية السياسية.
كيري وجه تهديدات مقلقة لإسرائيل، وأقرنها بتهديد شخصي للرئيس عباس حين حذره من أن يلاقي مصير الراحل ياسر عرفات، ذلك أن كيري وكل من يدعم مساعيه، قد استنزف كل ما لديه من ضغوط على الطرف الفلسطيني، الذي وقف على أعتاب مرونة غير مسبوقة، لكنها مرفوضة إسرائيلياً.
تهديد كيري الواضح والصريح، مما يمكن أن تواجهه إسرائيل، من مقاطعة دولية وعزلة، متبوعة بتهديد مماثل يعكس المضمون ذاته من قبل سفير الاتحاد الأوروبي في إسرائيل.
هذه التهديدات يمكن قراءتها، على أنها تعكس موقفاً أميركياً وأوروبياً، يدرك أن إسرائيل هي التي تتحمل المسؤولية عن تعطيل الجهد الأميركي نحو التسوية، لكنها لا ترقى إلى الاعتراف الصريح.
العنجهية الإسرائيلية، التي توافق على تمديد المفاوضات، طالما أنها لا تستدعي وقف سياساتها ومخططاتها، وتستثمرها لتوسيع وتعميق الوقائع الاحتلالية على الأرض، هذه العنجهية ذهبت في اتجاه آخر، نحو تصعيد الهجوم الشخصي على وزير الخارجية الأميركية، الذي اتهمه البعض باللاسامية، والبعض الآخر، بأنه يبيع وهماً.
على أن الإجراءات التي اتخذها الاتحاد الأوروبي، بشأن مقاطعة بضائع المستوطنات، أحدثت قلقاً لدى الدوائر الإسرائيلية، عبر عنها يائير لابيد وزير المالية وزعيم حزب "يوجد مستقبل"، بالحديث عن خسائر تناهز الثماني مليارات من الدولارات ستتكبدها إسرائيل في حال اتسعت دائرة المقاطعة.
حتى في إسرائيل، أخذت تتسع دائرة، مقاطعة المشروبات الكحولية التي يتم إنتاجها في المستوطنات، حيث بدأ بعض الفنادق والمطاعم الفاخرة، يمتنع عن شرائها وتقديمها، بدعوى أنها رديئة، وفي جهد مواز، قام عدد من رجال الأعمال والاقتصاديين الإسرائيليين بتقديم رسالة لرئيس الحكومة نتنياهو، يطالبون فيها بتحقيق السلام مع الفلسطينيين ويحذرون من أن الفشل سيؤدي إلى خسائر اقتصادية، وفقدان فرص عمل، والهبوط بمستوى معيشة السكان.
والأرجح أن استمرار المفاوضات لفترة أطول، من شأنه أن يؤدي إلى نشوء المزيد من التناقضات، ويعمق الموجود منها، طالما بقي الموقف الإسرائيلي على حاله من التطرف، ذلك أن مؤشرات هذا التناقض سياسياً قد أخذت تظهر داخل الحكومة الإسرائيلية بين معسكر لبيد ـ ليفني، ومعسكر المتطرفين من الليكود، والبيت اليهودي وإسرائيل بيتنا.
في هذا الاطار إذاً، علينا أن نراقب دون تطير أو مراهنات وهمية ما تواجهه إسرائيل، من تناقضات متزايدة، داخلياً، بالمعنى السياسي والاجتماعي وخارجياً مع المجتمع الدولي بما في ذلك أهم حلفائها التاريخيين، الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية.
من الوهم الخالص الاعتقاد بأن الولايات المتحدة وأوروبا، يمكن أن يصل بهما الأمر إلى حد التخلي عن تحالفهما ودعمهما لإسرائيل، ولكن من الوهم، أيضاً، الاعتقاد بأنهما غير قادرين على، إرغام إسرائيل، في حال توفرت الإرادة وفيما مضى، نتذكر ما فعله وزير الخارجية الأميركي السابق، جيمس بيكر حين جر إسرائيل من شعرها إلى مؤتمر مدريد.
الإدارة الأميركية جادة هذه المرة، ومساعيها مدعومة من قبل "الرباعية الدولية" ومن عدد من الدول العربية، ولكن السؤال الأساسي، هو هل يكفي ذلك لإرغام إسرائيل على الذهاب إلى تسوية تحقق الحد الأدنى من تطلعات الفلسطينيين؟
ثمة هوة واسعة، بين الرؤيتين الإسرائيلية والفلسطينية، لن يكون من السهل ردمها، أو تقريب وجهات النظر، ففي الأساس، يسعى الفلسطينيون إلى التخلص من الاحتلال بكل رموزه، بينما يسعى الإسرائيليون لبقاء الاحتلال، ومواصلة السيطرة على حياة الفلسطينيين.
يكفي في هذا الاطار، أن تواصل إسرائيل تمسكها بضرورة اعتراف الفلسطينيين بيهودية الدولة، وبأن تحتفظ إسرائيل بأمنها من خلال وجودها لكي يؤدي ذلك، إلى نسف كل إمكانية لتحقيق السلام.
إسرائيل لا تثق بأية قوة أخرى، غير جيشها، حتى لو كانت من الناتو، أو من دول متعددة الجنسيات، إذ تقول إن تجارب أفغانستان، ولبنان، تفيد بأن مثل هذه القوات، تكبل يد إسرائيل، وحين تحتاجها لا تجدها، وإنها لا تحوز على الثقة المطلوبة لحماية أمن إسرائيل.
التسوية إذاً بلا آفاق حقيقية، حتى لو جرى الاتفاق على تمديد المفاوضات، وهو امر ممكن، والهدف المطلوب تحقيقه خلال فترة قصيرة من قبل الإدارة الأميركية.
ولكن ما ستتركه الفترة المتاحة من المفاوضات، من تناقضات ومن تغيرات ولو طفيفة، خصوصاً على المستوى الدولي، ستوفر للفلسطينيين فرصاً أفضل لمتابعة معركتهم ونضالهم ضد الاحتلال.
بقي أن نذكر مرة أخرى بأمرين: الأول، أنه لا يجوز الموافقة على تمديد الفرصة المتاحة للمفاوضات، وفق الشروط ذاتها، التي رافقت استئنافها، فإما أن يتحرر الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي، وإما أن يتم تقييدهما وتوفير بيئة أفضل للتفاوض.
أما المسألة الثانية، فهي أن على الرئيس محمود عباس أن يبادر وفوراً لترتيب البيت الداخلي، ولملمة وتعزيز الأوراق الفلسطينية لمجابهة استحقاقات مرحلة أكثر صعوبة من المفاوضات الجارية، وتتطلب توحيد جهود الفلسطينيين، وأخيراً، مطلوب من كافة القوى الفلسطينية، أن تتفهم بعضها البعض، وأن تواصل التعبير عن معارضتها للمفاوضات بأشكال ديمقراطية سلمية، وذلك أمر محمود ومطلوب.