بعد أن كانت سورية مسرحاً وعنواناً لتشكُّل نظام دولي جديد وتنافس حاد بين الولايات المتحدة وقاطرة من الحلفاء من جهة، وروسيا وحلفائها من جهة أخرى،
برزت أزمة أوكرانيا التي أكدت على حالة التنافس الدولي وفتح الباب على غاربه لموجة جديدة من الحرب الباردة بين اللاعبين الدوليين الكبار.
هي حرب باردة لأنها لن تتجاوز بالتأكيد الحرب التقليدية العسكرية، خصوصاً وأن جميع المنخرطين في هذا التنافس مقتنعون بأن اندلاع حرب ستعني فاتورة هائلة من التكاليف والخسائر التي تشمل الكل، على اعتبار أن الحرب في حال وقعت فستكون في ما يمكن تسميته قلب أوروبا، أي قلب الحدث.
ربما لم يكن في وارد روسيا ضم شبه جزيرة القرم إليها، إنما يبدو أن الغرب سهل لموسكو ووفر لها الذريعة التي مكنتها من ضم القرم رسمياً في إطار استفتاء قرمي طالب باستقلال شبه الجزيرة عن أوكرانيا وضمها إلى موسكو ضمن قرار روسي صادر عن الرئيس فلاديمير بوتين.
لقد حاولت الدول الغربية واستماتت من أجل وضع أوكرانيا في جيبها، وكذلك حاولت روسيا تقديم كل التسهيلات الممكنة ومن ضمنها الاقتصادية من أجل سحب كييف إلى حظيرتها، لكن النتيجة كانت بانقلاب المعارضة الأوكرانية على الرئيس المعزول بالقوة يانوكوفيتش، بالرغم من توصل الفرقاء الداخليين إلى اتفاق رعته الدول الكبيرة لإنهاء النزاع الداخلي والشروع في إجراء انتخابات مبكرة.
هذا الإجراء وفر لروسيا الذريعة لسلخ القرم عن الخاصرة الأوكرانية، لأنه لو لم تفعل موسكو ذلك لأصبحت قواعدها العسكرية مهددة بالرحيل، خصوصاً بعد وصول المعارضة الأوكرانية إلى السلطة والموقف المعادي الذي تحمله نحو روسيا.
يبدو أن هناك قرارا أميركيا يستهدف تطويق روسيا ومحاصرتها على الصعيدين السياسي والجيو استراتيجي وكذلك على الصعيد الاقتصادي، خصوصاً مع تنامي وتعاظم القوة الاقتصادية الروسية باعتبارها من أهم الدول المصدرة للغاز إلى مختلف القارة الأوروبية، والغربية منها تحديداً.
هذه القوة الروسية الصاعدة بدأت تدركها الولايات المتحدة، وتحاول التعاطي معها عبر فرملة التقدم الروسي بالاستحواذ على أوكرانيا ومساعي ضمها إلى حلف الشمال الأطلسي، الأمر الذي سيعني محاصرة القوات الأطلسية للدب الروسي.
حالياً وعبر الاحتجاجات التي طالت أوكرانيا منذ بدايات الأزمة ووصول المعارضة إلى السلطة، تمكنت واشنطن وحلفاؤها الغربيون من وضع اليد على القرار الأوكراني، لكن التداعيات التي حصلت مع اشتداد الموقف الروسي وضم القرم، خلقت تعقيدات جديدة تؤثر بطبيعة الحال على أوكرانيا تحديداً ومن ثم على مصالح اللاعبين الكبار.
الآن أوكرانيا منقسمة بين الشرق والغرب، الأول الذي ترتفع فيه أصوات تحن إلى روسيا وهو الشرق الذي يتوفر فيه عصب الاقتصاد الأوكراني وتتمتع مناطقه بوضع جيد، مقابل الغرب الذي يعتبر حاله أفقر من نظيره في الشرق ويستند في اقتصاده على الزراعة.
المعنى أن الخارطة الداخلية الأوكرانية اليوم ليست بخير، يضاف إليها تعقيدات كثيرة، من ضمنها ضعف الاقتصاد الأوكراني ومطالب الحصول على دعم مستعجل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، إلى جانب تعقيد خطير يتصل بوجود يمين متطرف لا ينسجم في تطلعاته مع النظام الأوكراني الحالي.
انضمام القرم إلى روسيا سيفتح الشهية لدى المناطق الشرقية في أوكرانيا لطلب الانفصال عنها، ما لم تتمكن الأخيرة من الحصول على الدعم الأوروبي والغربي لتمكين اقتصادها ومعالجة الوضع الداخلي بحلول ذكية، مع العلم أن روسيا لا تزال تترقب باهتمام لأمر أوكرانيا وليس فقط لمناطقها الشرقية.
الرد الأميركي والغربي على روسيا كان متسارعاً، واعتبرت واشنطن موسكو "بعبع" ينبغي وقفه بأي شكل من الأشكال، وعلى الفور جرى استبعاد روسيا من مجموعة الثماني التي أصبحت "السبع"، في حين فرضت عقوبات أميركية وأوروبية على 21 مسؤولا روسيا وأوكرانيا.
الأميركان لم يكتفوا بذلك فحسب، بل هددوا بإجراءات أخرى من ضمنها اقتصادية عقابية ضد روسيا، وجرى اجتماع بين زعماء الدول الصناعية السبع في هولندا، تبعه قمة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في بروكسل، لتأكيد التوافق على دعم أوكرانيا وعزل روسيا.
أوباما أخذ "البعبع" الروسي حجة لتأكيد قوة تحالفه مع الاتحاد الأوروبي، خصوصاً بعد ارتباك العلاقات بين بلاده ودول أوروبا الغربية على خلفية التجسس الأميركي على رؤساء أكثر من دولة أوروبية والملايين من شعوب هذه الدول.
لقد تحدث أوباما في نقطتين مهمتين للغاية أثناء القمة مع الاتحاد الأوروبي، إذ حث قادة هذه الدول على تنويع اقتصاداتها المتعلقة بالطاقة لجهة التخفيض التدريجي في الاعتماد على الطاقة الروسية، والاتجاه في المستقبل نحو تزويد واشنطن لأوروبا بالوقود والغاز الصخري.
أما النقطة المهمة الأخرى فتتعلق بالقلق الأميركي من خفض بعض الدول المنضمة للناتو لميزانياتها الدفاعية، إذ قال أوباما في هذا الصدد إن "الحرية ليست مجانية وهي تتطلب الإنفاق من أجل الأمن المشترك وضمان امتلاك قوة ردع فعالة".
القصد من كل هذا الكلام، أن الولايات المتحدة بدت أكثر من أي وقت مضى، على استعداد لاتخاذ كافة الإجراءات من أجل إعادة تقزيم روسيا بالوسائل غير المكلفة، ويبدو أن هناك توجهاً لدى واشنطن لإيجاد وفتح أسواق في أوروبا الغربية للمنتج الأميركي الجديد المتعلق بمصادر الطاقة المكتشفة حديثاً.
تعتقد واشنطن أن التخلي الأوروبي التدريجي عن النفط والغاز الروسيين سيحرر رقبة الأولى من اليد الروسية، لأن الأخيرة تصدر أكثر من ثلث إنتاجها من الطاقة إلى أوروبا الغربية، وهذا يقود إلى أن الأخيرة لن تتمكن على الأقل وفي الوقت الحالي من التخلي عن الطاقة الروسية.
ما تبحث عنه واشنطن في المستقبل المنظور يتصل بتصدير التكنولوجيا والأسلحة المتطورة إلى الدول الغربية ونحو تحصينها ضد القدرات الروسية غير البسيطة، وأيضاً فتح المجال أمام توقيع اتفاقيات مع الغرب الأوروبي لتصدير الطاقة الأميركية ومحاولات إحلالها بدلاً من الطاقة الروسية.
وبهذا تكون الولايات المتحدة قد أصابت الاقتصاد الروسي في مقتل، وتمكنت من إعادة رسم خارطة الدول الغربية بناءً على حلف قوي ومتماسك يعززها في مواجهة الدب الروسي، لكن تبقى هذه التوجهات بحاجة إلى المزيد من الوقت حتى تأخذ حيز التنفيذ، خصوصاً في جانب تصدير الطاقة الأميركية.
هذا التوجه الأميركي ربما أصبح سارياً للمفعول بعد الأزمة الأوكرانية، إنما إلى لحظتنا هذه يبدو أن هناك اتفاقا روسيا غربيا حول أوكرانيا، يتعلق بتحييد الأخيرة وعدم سحبها كاملةً إلى مربع واحدة من تلك الدول أو الأحلاف على حساب الأخرى، لأن ذلك سيشكل نقطة تحول كبيرة في العلاقات الدولية من شأنها أن تؤثر على مستقبل الكثير من الدول هناك.