صرخة مدوية أطلقها الراحل الكبير الإمام الخميني في السابع من آب لعام 1979، بإعتبار الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك من كل عام، يوماً عالمياً لنصرة القدس،
يوماً تخرج فيه الجماهير العربية للشوارع والساحات والميادين العامة للتعبير عن غضبها والإحتجاج على ما تتعرّض له المدينة من عمليات تطهير عرقي، وأسرلة وتهويد تطال كل معالم وجودها من بشر وحجر وشجر، عملية يراد منها نفي وجودنا المتجذر في هذه المدينة وتزوير تاريخنا والسطو على تراثنا وآثارنا وكل معالم حضارتنا العربية والإسلامية، حتى مسجدنا الأقصى يريدون تقسيمه زمانياً ومكانياً تمهيداً لهدمه وإقامة ما يسمى بالهيكل المزعوم مكانه.
تأتي الذكرى السادسة والثلاثون ليوم القدس العالمي والكثير من العرب أضاعوا البوصلة والهدف، فليس فقط لم تعد القدس قبلتهم وقضيتهم المركزية، بل هي القضية الفلسطينية برمتها، والأخطر من ذلك أن تنتقل العديد من الدول العربية من مرحلة العداء مع الإحتلال الصهيوني الى مرحلة التطبيع والتعاون والتنسيق معه في ظل إستمرار إحتلاله لفلسطين والقدس وأراض من دول عربية أخرى، ولتصل الحالة العربية إلى درجة غير مسبوقة من الإنهيار والتفكك والتدمير الذاتي بفعل الحروب المذهبية والطائفية التي أدخلتها فيها قوى الإستكبار والطغيان العالمي، وفي مقدمتها أمريكا ودول أوروبا الغربية خدمة لمشاريعها ومخططاتها وأهدافها في المنطقة، أهداف تتلخص في تفكيك وإعادة تركيب الجغرافيا العربية على حدود الفواصل والتخوم المذهبية والطائفية، لكي تقوم بدل الدول المركزية المدمرة والمفككة جيوشها وبالذات (العراق، سوريا ومصر) كيانات اجتماعية هشة غير مالكة لإرادتها وقرارها السياسي ولا مسيطرة على خيراتها وثرواتها.
قبل ما يسمى بـ"ثورات الربيع العربي" كانت العديد من الدول العربية تحيي هذه الذكرى بالشعارات والهتافات والمسيرات والمظاهرات والتي جزء منها مدجن، ويجري تحت سقف وعيون مخابرات الأنظمة العربية، لكي تمتص غضب الجماهير، ومن أجل أن تقوم بتفريغ شحنات غضبها وعواطفها ومشاعرها، ولكن بعد أن نجحت القوى الإستعمارية وبمشاركة أدوات عربية، وبالذات الخليجية منها، في نقل الفتنة المذهبية (سني- شيعي) والطائفية (مسلم – مسيحي) من المستوى الرسمي إلى المستوى الشعبي، فإن العديد بل أكثر دول النظام الرسمي العربي، لم تعد ترى في "إسرائيل" عدوها الأول، وبدلت وغيرت قواعد الصراع وحرفته عن أساسه من صراع عربي- "إسرائيلي" إلى صراع عربي – إيراني "فارسي"، وبذلك هي لم تعد ترى في صرخة الراحل الإمام الخميني، أي قيمة أو معنى، بل تقوم بمهاجمة هذه الدعوى، والتي تعتبرها خدمة لأجندات مذهبية، والأخطر من ذلك أنه على جبهة أصحاب القضية المركزية، ومن هم يكتون بنار الإحتلال وإجراءاته وممارساته العنصرية والقمعية والإذلالية وجرائمه المرتكبة بحقهم وحق قدسهم، فإن حالتهم وأوضاعهم الداخلية، ليس بأفضل ولا احسن من الحالة العربية والإسلامية، حيث الإنقسام المدمر يتكرّس ويتعمّق ويتشرعن، والحالة الفلسطينية تزداد ضعفاً على ضعف، حيث تغيب الرؤيا والإستراتيجية الموحدة، ولا تظهر في الأفق القريب اي بوادر لإنهاء الإنقسام وإستعادة الوحدة لا على صعيد المؤسسات ولا الجغرافيا، والوضع الداخلي ينذر بإنفجار مدمر، نتيجة ارتفاع حدة الشحن والتراشق الإعلامي والتحريض والمناكفات بين طرفي الإنقسام، والأخطر من ذلك أنه في ظل إحتدام الصراع بين طرفي الإنقسام على سلطة منزوعة الدسم، الإحتلال يتحكم في برها وبحرها وجوها وحتى حركتها وتنقلاتها ليس الخارجية فقط، بل والداخلية منها، تجري عمليات إعتقال سياسية متبادلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، ونحن ما زلنا تحت الإحتلال..؟
ولكن ما يبعث التفاؤل والأمل في الذكرى السادسة والثلاثون لصرخة الإمام الخميني، بأن بذور الثورة التي زرعها وأطلق شرارتها، أثمرت وتثمر أزهار يانعة، فها هي ايران، رغم كل ما تعرضت له على مدار سبعة وثلاثين عاماً من حصار مدمر بكل أشكاله وترهيب وترغيب أمريكي - غربي استعماري، لمنعها من حقها في إمتلاك التكنولوجيا النووية، بفضل قوة وصلابة ومبدئية قيادتها، وإمتلالكها للإرادة والصمود تفرض شروطها على قوى النهب ولصوص الإستكبار العالمي، لكي تسلم تلك الدول بحق ايران في إمتلاك برنامج نووي سلمي، يلبي إحتياجاتها من الطاقة والإستخدامات غير العسكرية للتصنيع النووي.
ايران اليوم أضحت قوة مركزية في المنطقة، قوة مقررة ولاعب رئيسي، لا يستطيع أحد أن يتجاهلها، من أفغانستان وحتى اليمن وفلسطين، فهي تعلمت كيف أن تقول لا، وعملت على ترجمة هذه اللاء إلى فعل على أرض الواقع، لم ترتعش قيادتها سياسياً، ولم تقدم تنازلات تضر بسيادتها أو حقوقها.
منذ صرخة الإمام الخميني، وحتى اللحظة الراهنة، "إسرائيل" تضخ مليارات الدولارات من أجل تهويد المدينة، وزرعها بالمستوطنات، ونحن نعقد القمم العربية والإسلامية حولها، وتجتمع اللجان المسماة باسمها، وتقرّ دعماً للقدس، لا يصل منه إلا النزر اليسير، وأغلبه يتبخر بعد إنتهاء تلك القمم وإجتماع تلك اللجان.
القدس تضيع، ونحن نسير على نفس النمط والوتيرة والنهج "جعجعات" و"هوبرات" إعلامية وتصريحات ومقابلات صحفية، وشعارات وبيانات شجب وإستنكار، ونخوض جدال بيزنطي حول جنس الملائكة ذكر ام انثى.
نحن بحاجة إلى الخروج عن ما هو مألوف، نحن بحاجة إلى مواقف عملية، تخرج عن كل الأشكال والسياقات القديمة، بدل المبالغ التي تصرف للصراخ والهتاف وغيرها، تبرعوا بتلك المبالغ من أجل شراء منازل وبيوت وعقارات في القدس وأوقفوها، تبرعوا من إجل إقامة مشاريع إسكان في القدس، تحمي الأرض من خطر المصادرة، تبرعوا من أجل بناء مدارس في القدس، تثبت الطلبة في مدينتهم، وتحمي ذاكرتهم ووعيهم من خطر التشويه والإحتلال، فإحتلال الوعي أخطر من إحتلال الأرض.
الإمام الخميني أطلقها صرخة مدوية، حوّلوا صرخة هذا الإمام إلى أفعال حقيقية، فالتاريخ لن يرحم أحداً منكم في حال ضياع القدس، وبدل الأموال التي تصرفونها على تدمير بلدانكم، وقتل أبنائكم بها، يا ليت لو تصرفون الجزء اليسير منها لدعم صمود المقدسيين وبقائهم في قدسهم وعلى أرضهم.