محمد يزف محمداً.. ومحمد يودع محمداً، وشهداء القدس محمودين، فمنذ جريمة خطف وتعذيب وحرق الشهيد الفتى محمد أبو خضير حياً، على يد عصابات مجرمة وحاقدة من المستوطنين، وشلال الدم المقدسي لم ينقطع، فكان الشهيد محمد الأعرج على حاجز قلنديا في أضخم وأكبر تظاهرة جماهيرية على حاجز قلنديا، تنديداً بالعدوان والمجازر والجرائم الصهيونية بحق شعبنا وأهلنا في قطاع غزة..
ومن بعدها كان الشهيد محمد جعابيص سائق "الحفار"، الذي قتل بدم بارد على يد قوات الأمن والشرطة الإسرائيلية، بعدما قام المستوطنون بالإعتداء عليه، واليوم جاء استشهاد الفتى محمد سنقرط بعد أسبوع من الموت السريري نتيجة إطلاق الرصاص المعدني عليه على الرأس ومن مسافة قصيرة من قبل شرطة الإحتلال وليلتحق بالمحاميد الثلاثة الذين سبقوه.. إنه عرس المحاميد المتواصل في القدس.. عرس سيتواصل ما دام الإحتلال جاثماً على صدور شعبنا وقدسنا.
القدس هي من تهب وتشعل فتيل الأحداث والإنتفاضات، تدفع وتقدم على مذبح الحرية والدفاع والصمود وحماية المقدسات وبالذات المسجد الأقصى، الشهداء والأسرى والجرحى والمبعدين.. القدس تحاصر وتزرع المستوطنات في قلب أحيائها العربية، تحاصر قراها وتمنع من التمدد والتواصل الجغرافيا والديمغرافي، والهدف واضح الطرد والترحيل القسري، ولكن المقدسيون يقولون: هنا ولدنا.. هنا ترعرعنا.. وهنا كبرنا.. وهنا نموت وندفن.. في قدسنا عنوان عزتنا وكرامتنا.
قتلة الشهيد الفتى أبو خضير تأجلت للعشرين من الشهر القادم، وهي جريمة مكتملة الأركان، ولا تحتاج إلى أدلة وقرائن وبيانات، وفيها إعترافات واضحة، ولكن الإحتلال كعادته، يحاول أن يجد منفذاً ومخرجاً للقتلة، لكي لا تتم محاكمتهم وسجنهم، فتارة يجري الحديث عن أن اثنين من المتهمين قاصرين، والمتهم الثالث مشكوك بأهليته، كل ذلك لكي ينالوا حكماً مخففاً، او يتم الإفراج عنهم، ولنا شواهد وسوابق عديدة جرى فيها إطلاق سراح قتلة أبناء شعبنا من قبل المستوطنين، أو ممن إرتكبوا جرائم ضد مقدساتنا وممتلكاتنا، كما حدث مع المتطرف الصهيوني من أصل أسترالي "روهان" عندما قام بحرق المسجد الأقصى في آب/1969، حيث جرى ترحيله إلى أستراليا فوراً تحت ذريعة عدم أهليته. واليوم يجري الحديث عن قتلة الشهيد الفتى أبو خضير بنفس الإتجاه، وكأن سجون الإحتلال ليست مليئة بأطفال شعبنا، والذين حكم عليهم بعشرات السنين لقضايا امنية،ولا نخال كذلك بانه سيجري محاكمة لقتلة الشهيد محمد جعابيص، والذي تثبت كل الدلائل بانه جرت تصفيته بدم بارد، ودون أن يشكل أي خطر على جنود الإحتلال أو حتى مستوطنيه، وما ينطبق عليه ينطبق على الشهيدين محمد الأعرج والفتى محمد سنقرط، فالحجج والذرائع جاهزة، قوات الأمن تصرفت وفق الأوامر والدفاع عن النفس.
هذا هو حال شعبنا في مدينة القدس.. معاناة دائمة ومستمرة.. الكل يعاني العامل والمعلم والطالب والمواطن والتاجر والطفل.
العامل يدفع به للعمل في المؤسسات الصهيونية في الأعمال السوداء والدونية، حيث يتعرض للإضطهاد والتمييز على خليفته القومية، ولقمة عيشه مغمسة بالذل وإمتهان الكرامة.. والمعلم يحرم من الوصول الى مدرسته من كثرة الحواجز وتجري إعاقته عن قصد، وفي الكثير من الأحيان، لا يستطيع التعبير عن رأيه او موقفه ضد الإحتلال، فهو مهدد من قبل أجهزة الأمن الإسرائيلية في لقمة عيشه، والطالب يحرم من التدريس بسب النقص في الغرف الصفية، مما يضطره للتسرب من المدارس، والضياع بين سوق العمل الأسود أو مخاطر الإنزلاق إلى الأمراض الإجتماعية من "طوش" و"تسكع" في الشوارع أو ينغمس في الرذيلة والأمراض الإجتماعية الأخرى كالمخدرات وغيرها، ناهيك عن محاولة أسرلة وعيه والسيطرة على ذاكرته الجمعية وتشويه انتمائه وزعزعة ثقته بقضيته وبحقوقه وحشو دماغه بمعلومات مغايرة للواقع والتاريخ عن بلده ووجوده فيها.
أما المواطن المقدسي، فهو مثقل بالهموم، من كثرة ما يتعرض له من ضغوطات وإجراءات وممارسات بحقه من قبل حكومة الإحتلال وأجهزته المختلفة، حيث الحرمان من البناء والسكن، نتيجة القيود الكثيرة والتعجيزية والتكاليف الباهظة للحصول على الترخيص والتي تجاوز الـ(50) ألف دولار للشقة الواحدة، ناهيك عن الغرامات الباهظة المفروضة على البناء غير المرخص، وما يستتبع ذلك الكثير من الضرائب مثل المسقفات "الأرنونا" والدخل والتامين الوطني ورسوم المجاري والتلفاز.
أما عن اوضاع التجار وبالذات منهم تجار البلدة القديمة من القدس، فقد بلغت درجة كبيرة من الخطر، ليس بسبب ما يتعرضون له من إجراءات ومضايقات وقيود من قبل الإحتلال وما يسمى ببلدية القدس فقط، بل الكثير من محلاتهم التي أغلقت والتي تزيد عن (300) محل، إذ أن تكاليف فتحها أكثر من تكاليف إغلاقها، والعديد منها بسبب ما تراكم عليها من ضرائب وبالتحديد المسقفات "الأرنونا" والبالغة عشرات الآلاف الشواقل، أصبح مهدداً بخطر الإستيلاء عليه من قبل بلدية الإحتلال وأجهزتها المختلفة، ناهيك عن أن هذا الوضع اضطر العديد من التجار لنقل مركز حياتهم من القدس للضفة الغربية، من أجل تدبير امور معيشتهم وحياتهم، وبما يعني بالملموس تفريغ البلدة القديمة من سكانها العرب، وبما يمهد لإستيلاء المستوطنين عليها.
أما الأطفال المقدسيين فهم يجري التنكيل بهم بشكل يومي، حيث تجري عمليات اعتقال لهم شبه يومية، اعتقالات وما يصاحبها من إرهاب وتخويف وتحقيق وأحكام، تحرمهم ليس من طفولتهم فقط، بل من دراستهم، ناهيك عن إبعادهم عن أسرهم واماكن سكنهم، وكل ذلك يؤثر على نفسياتهم وسلوكهم، تلك هي حياة الطفل المقدسي في ظل الإحتلال.
بإختصار المقدسي في بلده غير آمن، ويدفع ثمناً باهظاً كإستحقاق لصموده وبقاءه في القدس ودفاعاً عن وجوده وكرامته ومقدساته.. يقف وحيداً وبإمكانياته الذاتية في خوض معاركه على كل الصعد ضد الإحتلال، متسلحاً بالإرادة وغريزة البقاء في هذه المدينة، التي تعبّر عن كينونته ووجوده وهويته، ولا يسمع من محيطه العربي والإسلامي غير طحناً بدون طحين.. وصوت بدأ يخفت، يدين ويستنكر على إستحياء إجراءات وممارسات الإحتلال بحق القدس ومقدساتها وسكانها..!!
* كاتب ومحلل فلسطيني يقيم في مدينة القدس