تلك الصرخة المدوية التي أطلقها الراحل الإمام الخميني في السابع من آب 1979، بإعتبار الجمعة الأخيرة من شهر رمضان من كل عام، يوماًً للقدس العالمي، يوماً تخرج فيه الجماهير العربية والإسلامية للشوارع والساحات والميادين العامة
للتعبير عن غضبها والإحتجاج على ما تتعرض له المدينة من عمليات تطهير عرقي وأسرلة وتهويد، تطال كل معالم الوجود العربي الفلسطيني والإسلامي فيها، عمليات وإجراءات وممارسات عنصرية قمعية وإذلالية، وتشريعات وقوانين وقرارات كلها تصب في إطار طرد وترحيل قسري للمقدسيين عن مدينتهم وأرضهم، لا يسلم منها لا البشر ولا الشجر ولا الحجر، إجراءات وممارسات تستهدف الإجهاز على المدينة بشكل كامل، ليس بغرض تحويلها عاصمة لدولة الإحتلال فقط، بل لكل يهود العالم، في عملية سطو وتزوير لم يعرف لها التاريخ البشري مثيلاً.
تأتي الذكرى الخامسة والثلاثون ليوم القدس العالمي، تلك الصرخة المدوية التي أطلقها الإمام الخميني من أجل القدس هذا العام، في ظل عدوان همجي بربري يشنه الإحتلال الصهيوني على شعبنا في قطاع غزة البطلة، ما زال يتواصل لليوم التاسع عشر ويشتد ضراوة وعنفاً، ويرتكب فيه العدو المدجج بكل أنواع آلة الدمار العسكري الأمريكي المجازر وجرائم الحرب بحق أطفالنا ونساءنا والذين اقترب عددهم من (700) شهيد وأكثر من (4500) جريح، يدعمه ويسانده ويوفر له المظلة والحماية والغطاء في ذلك من يدعون زوراً وبهتاناً تمسكهم بالشرعية الدولية ويذرفون دموع التماسيح عليها وعلى قوانينها وقيمها ومواثيقها، من هو ديكور بيد الأمريكان أمين عام الأمم المتحدة (بان كي مون) والأمريكان والمستعمرين الغربيين الذين شرعوا للعدو عدوانه وجرائمه ومجازره، تحت ذريعة ويافطة حقه المشروع في الدفاع عن نفسه، في أكبر عملية تزوير و"تعهير" للقوانين والمواثيق الدولية، حيث فقط هم لم يساووا بين الضحية والجلاد، بل ساندوا الجلاد على الضحية وصادروا حقه في الدفاع عن نفسه، وما كان لهم أن يتمادوا في هذا العدوان وتلك الجرائم، لولا دعم ومساندة المنهارين في الساحة العربية من مشيخات النفط والكاز وغيرهم من العربان الذين فقدوا البوصلة، ونظروا للأمور من زاوية خلافاتهم السياسية مع حركة "حماس" والوضع الداخلي لبلدهم، مختزلين القضية والمقاومة الفلسطينية في "حماس".
غزة كشفت عار العرب وذلهم.. غزة انتصرت بمقاومتها وبصمودها وإلتحام شعبنا وجماهيرنا حول المقاومة.. غزة كشفت بأن فلسطين محتلة من قبل العرب المرتعبين والمسكونين بالذل والعار.. العرب العاملين كحراس للمشروع الصهيوني أكثر من الصهاينة أنفسهم.. غزة استوعبت قول سماحة سيد المقاومة الشيخ حسن نصرالله بأن دولة الإحتلال أوهن من بيت العنكبوت.. غزة كان وما زال وفيّ لها محورها من قوى المقاومة وفي المقدمة منها البلد التي أطلق منها الراحل الكبير الإمام الخميني صرخته من أجل القدس وسوريا وحزب الله.. ويكفي فلسطين وشعبها ومقاومتها وقدسها، بأن الصواريخ التي طالت معظم مساحة فلسطين التاريخية، ومعظم مغتصبات ومدن الإحتلال هي إيرانية وسورية.
منذ الصرخة المدوية التي أطلقها المرحوم الإمام الخميني قبل خمسة وثلاثين عاماً من أجل القدس، جرت في النهر مياه كثيرة، استمرينا نحن العرب والمسلمين، نحيي تلك الذكرى بالشعارات والهتافات والمسيرات والمظاهرات والتي جزء منها مدجن، وتسمح به الأنظمة تحت أعين اجهزتها الأمنية ومخابراتها وسقفها، لكي تمتص غضب الجماهير، ومن أجل التفريغ والتعبير عن غضبها وعواطفها ومشاعرها، وليت الأمور بقيت على هذا الحال، فمن بعد ما يسمى بـ"ثورات الربيع العربي" وجدنا هناك من يصطفون من العرب العاربة والمستعربة علناً إلى جانب الإحتلال ضد شعبنا وقضيتنا وقدسنا، وليس أدل على ذلك من تأييد البعض وتشجيعه للعدو في عدوانه الغاشم على شعبنا وأهلنا في قطاع غزة المحاصر.
تصطف بعض الأنظمة المنهارة إلى جانب القوى المعادية لأمتنا وقضايانا القومية والوطنية، من أجل حماية أنظمتها وعروشها وخدمة لمشاريع سياسية مشبوهة يريد فرضها الغرب الإستعماري والأمريكان على منطقتنا العربية، جوهرها قائم على إدخال منطقتنا في حروب وصراعات مذهبية وطائفية وتفكيك الجغرافيا العربية وإعادة تركيبها، بما يخدم تلك المشاريع، وفي المقابل يستمر الإحتلال بالعمل، ويوصل الليل بالنهار، من أجل أن يحكم سيطرته على المدينة، حيث زرع في قلب كل حي وقرية عربية مستوطنة، ولم يكتف بجدران الفصل العنصري والأطواق الإستيطانية الخارجية، بل عمد إلى تقطيع أوصالها وجغرافيتها على المستوى الداخلي، من خلال إقامة المستوطنات في قلب الأحياء العربية، والتي تمنع تواصلها الجغرافي مع القرى والأحياء العربية المقدسية المحيطة، وصعّد من عمليات هدم المنازل، بحيث لم تعد فقط مقتصرة على عمليات الهدم الفردي، والتي طالت منذ بداية الإحتلال اكثر من (2200) منزلاً فلسطينياً، بل أصبحت الهجمة والحملة تطال أحياء بكاملها، كما هو حال حي البستان في سلوان، حيث خطر الهدم والتشريد يتهدد أكثر من (89) منزلاً و(1500) مواطن فلسطيني، وليس فقط الهدم، بل الإستيلاء على أحياء فلسطينية بكاملها، كما هو الحال في حي الشيخ جراح وكبانية أم هارون، ناهيك عن الإستيلاء على البيوت والممتلكات العربية والفلسطينية، تحت حجج وذرائع قانون ما يسمى بأملاك الغائبين، أو إدعاء الملكية لليهود، أو عبر عمليات الإحتيال والنصب والتزوير والتواطؤ والتنسيق ما بين الجمعيات الإستيطانية والمستوى السياسي والقضائي الإسرائيلي، أو عبر العديد من السماسرة وضعاف النفوس أفراد ومحامين ومهندسين ورجال أعمال وغيرهم، الذين يتولون عمليات تزوير الملكية لصالح تلك الجمعيات الإستيطانية.
وإذا ما نظرنا إلى ما يجري على صعيد الأقصى، نجد أن خطر التقسيم الزماني والمكاني له، لم يعد مجرد شعار أو خبر أو تصريحات صحفية إسرائيلية، بل المسألة أخذت تتجه نحو التطبيق العملي لهذا المخطط، فهناك تشريعات وقوانين يجري سنها على المستوى القانوني والقضائي الإسرائيلي من أجل السماح لليهود والمستوطنين بالصلاة في الأقصى، وتخصيص أوقات وأماكن لهم، وما يقوم به المستوطنون وجمعياتهم الإستيطانية بدعم ومشاركة المستوى القضائي والأمني، من إقتحامات يومية بمشاركة قيادات سياسية وحزبية، خير دليل على ما يرمي ويهدف إليه الإحتلال، ويترافق كل ذلك مع إقامة العديد من الكنس والمراكز التجارية الإسرائيلية بالقرب من المسجد الأقصى، والإستمرار بالحفريات أسفله ومن حوله لهذا الغرض.
منذ صرخة الإمام الخميني، وحتى اللحظة الراهنة، "إسرائيل" تضخ مليارات الدولارات من أجل تهويد المدينة، وزرعها بالمستوطنات، ونحن نعقد القمم العربية والإسلامية حولها، وتجتمع اللجان المسماة باسمها، وتقر دعماً للقدس، لا يصل منه إلا النزر اليسير، وأغلبه يتبخر بعد إنتهاء تلك القمم وإجتماع تلك اللجان.
القدس تضيع، ونحن نسير على نفس النمط والوتيرة والنهج "جعجعات" و"هوبرات" إعلامية وتصريحات ومقابلات صحفية، وشعارات وبيانات شجب وإستنكار، ونخوض جدال بيزنطي حول جنس الملائكة ذكر أم أنثى.
نحن بحاجة إلى الخروج عن ما هو مألوف، نحن بحاجة إلى مواقف عملية، تخرج عن كل الأشكال والسياقات القديمة، بدل المبالغ التي تصرف للصراخ والهتاف وغيرها، تبرعوا بتلك المبالغ من أجل شراء منازل وبيوت وعقارات ووقفها، تبرعوا من أجل إقامة مشاريع إسكان في القدس، تحمي الأرض من خطر المصادرة، تبرعوا من أجل بناء مدارس في القدس، تثبت الطلبة في مدينتهم، وتحمي ذاكرتهم ووعيهم من خطر التشويه والإحتلال، فإحتلال الوعي يعادل إحتلال الأرض.
الإمام الخميني أطلقها صرخة مدوية، حولوا صرخة هذا الإمام إلى أفعال حقيقية، فالتاريخ لن يرحم أحداً منكم في حال ضياع القدس، وبدل الأموال التي تصرفونها على تدمير بلدانكم، وقتل أبنائكم بها، أيا ليت لو تصرفون الجزء اليسير منها لدعم صمود المقدسيين وبقائهم في قدسهم وعلى أرضهم.