كلام أنقله فقط، روته لي فتاة هاجرت مع حبيبها: وصلنا إلى الحلم. رأينا سواحل إيطاليا! كاد البحر يدركنا لولا قارب صيد، التقيناه صدفة وهو يهم بالعودة إلى شواطئ بلاده بعد رحلة ليلية لجني الرزق. ناديناه بما استطعنا من أصواتنا التي غلبتها البحة، بسبب البرد والخوف اللذان رافقانا طيلة رحلة البحر من الساحل المصري في الإسكندرية حتى هنا.
كانت ليلة رعب كوني. الصيادون اتصلوا بخفر السواحل الإيطالي، وأتوا بعد وقت، واصطحبونا إلى الشاطئ، نزلنا، وبانتظارنا حشد من المصورين، وعمال الإغاثة. حلمنا بأوروبا يقول أن هؤلاء أتوا لينجدونا، نحن الفارون من الحرب الدائرة بسوريا.
استقبلونا بـ«بادجيت» عليها أرقام، لم نفهم، معناها أول الأمر، والكاميرات كانت تلاحقنا، لأخذ صورة عفوية، توضح حالتنا الرثة، بعد ستة أيام من السفر داخل مستودع للسمك.
بلحظة أوروبا الحضارة حولتنا من معرف، إلى مجهول يعرف برقم، قد ينادى على أحدنا بواحد أو مئة وسبعة وأربعين، عددنا الكامل. بين الكبار والصغار، الذين وصل عددهم إلى سبعة وأربعين، منهم الرضع.
أخذونا إلى مكان يشبه المدارس، لكنه لم يكن مدرسة، وكانت حالتنا، سيئة أكثر مما يمكن أن يوصف، ربما سوق السمك في رواية العطر كانت رائحته أطيب من النتن الذي كان يصدر عنا، وضعوا الأطفال في الساحة العامة، أمام الجميع وبدؤوا بتنظيفهم، وتخفيف القذارة التي علقت بأجسادهم الطرية من الطريق الطويل في «جنينة الأسماك» التي وصلنا على متنها.
من المشاهد التي أثارت حفيظتنا وتقبلناها بعد وقت قصير، أن عمال الإغاثة وضعوا الكمامات، لما قرروا، جمع المعلومات عنا، استهجنا هذا المشهد، فلا يوجد بيننا هارب من وباء، كلنا أتينا من بلد أصابتها الحرب. وتقبلنا الموقف، حين انتبهنا أن نبتعد عن بعضنا ما استطعنا لئلا تتضاعف الرائحة القذرة المنبعثة منا.
انتهوا من هذه المرحلة معنا، وجمعوا البيانات المطلوبة لديهم، وما زلنا أرقاماً لديهم، ونقلنا «الطليان»، إلى كامب لا يوجد به أكثر من الحشرات، والصراصير التي اتخذت المكان ملجأ لها مثلنا. بقينا في المكان، لأيام، وعلمنا بطريقة غير مباشرة من حراس «الكامب» أن الخروج ممكن، وبالفعل حين خرجنا، لم يقل لنا الحراس إلا :«نتمنى لكم رحلة سعيدة». هم يقولون في الحقيقة، أنكم وصلتم إيطاليا، ولكن ليس بوسعكم البقاء، فإيطاليا لن تحتمل وجودكم، بسبب الاقتصاد المنهار ولأسباب أخرى. ربما من هذه الأسباب.. العنصرية مثلاً في بلاد «الديمقراطية البيضاء».
ذهبنا باتجاه السويد التي كانت أساساً هدفنا، ففيها شروط منح الإقامة أفضل بالنسبة للفلسطيني والسوري؛ وصلنا هناك، وقدمنا طلب الإقامة أو اللجوء، لنكون بعد حين أناساً يمتلكون «كرامة» حرموا منها عمرهم كله.
هذه العملة النادرة في غالبية البلدان العربية، لم نحظ بها في حاضرة الحضارة وحقوق الإنسان، فالسويد، المشرعة أبوابها لأعداد كبيرة من المهاجرين، تذرعت لنا بالأعداد الضخمة، لكي لا تمنحنا بعض الثياب الشتوية، في بلد البرد فيها أكثر ما يشعر فيه الغريب. رغم أن السويد، في المقابل، قدمت لنا مساكن حديثة ضمن «الكامب»، راعت فيها الخصوصية، عكس ما يحصل في إسبانيا، مع من يصلها مهاجراً.
ففي إسبانيا، كل من يصل إليها لا شك سيحصل على مسكن، ولكن من أجل متطلبات الدمج الكوني ربما، وضعت فتاة قادمة من سوريا مع... خمسة شبان أفارقة، دون مراعاة للفوارق الجنسية والاجتماعية والدينية وحتى اللغوية، ومعايير أخرى. منها مثلاً البيئة القادم منها كل شخص من هؤلاء. وكانت هذه المعاملة أداة إسبانيا لتهجير المهاجرين وتطفيشهم دون مخالفة قوانين حقوق الإنسان التي تمنع طرد مثل هؤلاء.
المهاجرون من سوريا، جراء الحرب، حملوا ذكرياتهم، وانطلقوا، عبر البحر، بمغامرة محفوفة بالموت، من غدر الأمواج، أو عبثها، ومن يسعفه حظه، سيصل إلى شواطئ أوروبا، دون مصائب قد يفقد فيها الأب ابناً له، أو زوجاً، أو ربما يحدث العكس.
جميعنا، اعتقدنا أن الحلم الجميل، المعاكس لكابوس الموت، يُرى في بلاد الفرنجة، لكن الحقيقة فيها مرارة لم نستطع نحن الذين وصلنا السويد، أو إسبانيا، أو إيطاليا، أن نصرّح بها، لئلا نلام ربما، أو لئلا يكسر أملنا الذي حلمنا به. وخسرنا لأجله كل ما جنيناه في عمرنا، ومنا كثر ممن استدانوا المال لكي يخوضوا رحلة الموت، التي تصل كلفتها بالحدود الدنيا إلى 5000 آلاف دولار.
هذا لن يجعل من حق أحد أن يلومنا لأننا هاجرنا، أو أن يشمت بنا.. فمن فرّ من الحرب لئلا يموت هو أو أسرته، لا يمكن أن نناقشه، فهو سيرد ببساطة: أمن لي حياتي فقط، حتى دون كرامة، فأبقى تحت القذائف، والقصف.