يناديه أهل المخيم بأبو حنفي، تيمناً باسم أبيه، شهيد الثورة الفلسطينية. مزيج من الطيبة والذكاء والبراعة الفطرية في حل أكبر الإشكالات «المخيمية». شاب بين الشباب، وكبير بين الكبار، وطفل بين الأطفال. ليس جندياً مجهول
اً، بل بارز واضح وأشهر من نار على علم.
وأبو حنفي شاب في الثلاثينيات من عمره، أصله من يافا، ويعمل سائقاً في شركة تأمين، لديه ولدان صغيران، وابنة بدأت لتوها بالمشي. يخرج صباحاً قاصداً عمله، ولكن في كل يوم تقوده سيارته التي يقودها إلى حيدر، بائع القهوة أولاً، ثم إلى شاطئ الرملة البيضا، ليستطلع أموراً لا يعلمها أحد سواه. يجلس هناك إلى أن يحين موعد العمل، وغالباً سيكتب فقرة شعر عنه. ولأن الناس أحبوه، فلا بد أن يصبّح أبو حنفي على الجميع بـ«تصبيحة الواتس أب». وهي حركة إن غابت، أثارت القلق والتساؤل: ما به؟ أين هو؟ هل حصل مكروه له؟ تصبيحة هذا الشاب/الأب صارت إدماناً لأحبابه.
من بوابة المخيم الصغير، حتى باب بيته، أمتار قليلة سيستغرق أبو ربيع وقتاً وقت طويل في اجتيازها. سيتوقف مرات عدّة، إما للحديث مع شخص يسلم عليه، أو للاستماع إلى امرأة تستنجد به لحل مشكلة في خزان مياهها، أو يتحدث إلى رجل يحكي له عن أفعال ابنه التي لا تعجبه ويريد منه أن يكلمه. سيظن السامع أن أبو حنفي هو المصلح الاجتماعي لمار الياس المخيم، وسيظن البعض أنه مسؤول عنه.
لكنه لا هذا ولا ذاك، هو مجرد فلسطيني يؤمن بأن قضيته تتطلب كل أنواع الوعي، وتحتمل كل أساليب العمل، وهو بسبب طبيعته الاستثنائية وحبه للناس واستيعابه الآخرين، ولهوايته الفطرية في تقريب وجهات نظرهم، صار ملاذاً ومرجعاً للكثيرين من أبناء المخيم، كباراً وصغاراً.
كنت حديث العهد في مخيم للاجئين الفلسطينيين في لبنان، كنت مفاجَأً من كل شيء تقريباً، كل الصورة التي كانت لدي عن سوء الأوضاع كانت أقل من الواقع. راجعت نفسي في كثير من كتاباتي، لو كنت قد رأيت ضيق أزقة مخيمات بيروت، لما استعملت كلمة أزقة مخيمات سوريا؛ لأن تلك الأزقة السورية عبارة عن شوارع ضخمة إذا ما قورنت بأزقة مخيمات لبنان.
حين دخلت بيت أبو حنفي لأول مرة، برفقة صديقتي الفلسطينية اللبنانية ريم، جلست مراقباً مستغرباً كل شيء. كنت كمن استرد وعيه للتو.
رأيت في المنزل طفلين صغيرين. الأول محمود، والثاني عمر، وطفلة في أول مشيها اسمها أمينة، ينادون الرجل المبتسم على الداوم بابا. وكان هناك أيضاً شابان، أحدهما ذو بشرة سوداء يدعى سليمان، والثاني أبيض البشرة، يدعى محمود، في العشرينيات من العمر. وفجأة، نادى سليمان أبو حنفي قائلاً: «يابا، أنا داخل ع المطبخ أوكل»، فيما هتف محمود: «يابا أنا طالع ع الشغل. عاوز إشي؟».
ارتفع منسوب الذهول لدي، فكيف يكون لهذا الرجل وزوجته الشابة، أولاد بهذا العمر؟ صمتّ طويلاً، إلى أن كدت أنفجر وأنا أرى سليمان يتحرك في البيت حقاً كأنه بيته. فسألت كالمخنوق: «حاج عاد، فهمني. كيف هدول ولادك؟ وكل واحد عمرو أبصر قديه»، فإذا بربيع يقهقه بضحكة مجلجلة يضحك لها ومعها كل الجالسين، بمن فيهم أمه التي أتت على صوتها من المطبخ، فعانقها أبو حنفي ونادى سليمان: «تعال بوس إيد ستك ولا».
خرجنا أنا وربيع وريم، نحو البحر، وأعدت السؤال، فأجابني بكلام، أعتقد أن منظّرينا السياسيين ومثقفينا الفلسطينيين عاجزون عن تقديم إجابة أشبه بمشروع وطني مثله. قال: «إني أحتويهم، لهم أهلهم صحيح، ولكنني أعتبر نفسي أيضاً بمثابة أهلهم وصديقهم ورفيق دربهم. قلبي بحب الإنسان اللي جواتنا، وبدي أضل أشتغل عليه».
وإن كان لينين يقول إن عمال المطابع هم الأوعى والأكثر جاهزية للثورة؛ لأنهم يقرأون ما يطبعون قبل الجميع، فإن أبو حنفي هو المثال الصارخ على صحة هذا الكلام. فقد عمل الشاب في المطابع سنين طويلة، لعدة دور نشر، فكان يراقب دقة الطباعة ويصحح الأخطاء في نصوص الكتب التي يطبعها، هكذا، كان يقرأ بالمناسبة، وإذا به مع مرور الوقت قد حصّل كمّاً ونوعاً من القراءة ما كان ليحصل عليه لولا عمله. «فش وقت لتقرا، لأنو في لحم بدو يوكل ويعيش ويكبر».
في الأزمة السورية، وحجم النزوح الكبير الذي توجه نحو لبنان، استطاع أبو حنفي احتواء الكثير من فلسطينيي سورية كما لو أنهم فعلاً إخوته، وكأنما بينه وبينهم سنوات من الصحبة والتجارب. فتجده يقول: «ما همّ إخوتنا، واللي صابنا زمان هياه صابهم. فش حدا يحس فيهم أكثر منّا».
أبو حنفي ابن لشهيد من شهداء الثورة الفلسطينية، وهو فلسطيني لبناني، ليس بمعيار مكان اللجوء، ولكن بالدم، فأمه لبنانية، وله منها إخوة لبنانيون، لهذا الأمر ولغيره، لا يعتقد ربيع أنه سيحب مكاناً في العالم أكثر من حبه لبلديه.
ربما لم يكن أبو حنفي النموذج الذي تتداوله وسائل الإعلام، فهو ليس السياسي الذي تبحث عنه فضائية هنا، وجريدة هناك، وليس المتحدث الكبير في الندوات، رغم أن لديه الكثير ليقوله ببراعة تتجاوز المثقفين، ربما لأنه ابن الناس وابن أوجاعهم بحق، دون ادعاء أو تصنّع أو رياء. هو ليس أكثر من فدائي يعمل بصمت يجعل كل من حوله سعيداً.
أبو حنفي وأمثاله داخل المخيمات الفلسطينية، هم المؤسسات الحقيقية للعمل الوطني الفلسطيني. وربما على المؤسسات العاملة بالوسط الأهلي أن تغتنم وجود مثل هؤلاء الأشخاص لتكوين بنية عمل أهلي حقيقي ينقذ ما يمكن إنقاذه.
مخيم مار الياس المخيم الأصغر في لبنان، ويبعد عن الحدود مع فلسطين قرابة 107 كلم، ويقع جنوب غرب بيروت. أنشئ عام 1952، وتبلغ مساحته نحو 0.5 كلم مربع وأرضه وقف لكنيسة الروم الأرثوذكس. يبلغ عدد الفلسطينيين المسجلين في مار الياس لدى الأونروا نحو 650 لاجئاً. معظمهم من مسيحيي قرية البصة ـ قضاء عكا. ويعمل معظم الرجال في المخيم عمالاً موسميين أو في مؤسسات صغيرة كالبقالات أو ورش تصليح السيارات. ويعدّ المخيم العاصمة السياسية للمخيمات الفلسطينية في لبنان، حيث يوجد فيه مركز رئيسي لكل فصيل فلسطيني عامل في لبنان.