أثار قرار الرئيس محمود عباس، بشأن شطب بند الديانة من الهوية، ردود فعل متباينة، كان أكثرها وضوحاً، وتطرفاً موقف حركة حماس، التي رفضت حكومتها في قطاع غزة، الالتزام به،
فضلاً عن تصريحات تندد بالقرار وتشكك في أبعاده، ودوافعه خصوصاً في هذا التوقيت الذي يتصل بالمفاوضات السياسية.
البعض ذهب في تحليل ابعاد القرار، الى أن هذا القرار ينطوي على أبعاد سياسية وباعتباره خطوة استباقية في اطار التنازلات المستمرة التي يقدمها الرئيس عباس، وتستهدف لاحقاً، إمكانية استيعاب مستوطنين يمكن أن يقبل الفلسطينيون بقاءهم داخل حدود الدولة الفلسطينية في حال التوصل إلى اتفاق بشأن إقامتها. بعض آخر، يضيف أن مثل هذا القرار ينطوي على أهمية وخطورة بحيث أنه، يتطلب توافقاً وطنياً، وبحثاً ومصادقة من قبل المجلس التشريعي لكونه أي القرار يتعارض مع النظام الأساسي الفلسطيني.
الاتهامات تمتد للنيل من الشرعيات، وكأن المسألة تخص الرئاسة الفلسطينية وليس كل الشرعيات القائمة ابتداءً من التشريعي إلى الحكومات، والرئاسة ومعظم المجالس البلدية التي انتهت صلاحياتها منذ زمن.
على أن ثمة معالجات موضوعية، تلاحظ الأبعاد الإيجابية التي يتضمنها القرار، لكنها تتحفظ على سياقه، إذ يبدو أنه قرار معزول عن السياق العام الذي يستدعي جملة متماسكة ومنسجمة من القرارات والإجراءات والآليات، التي تؤكد على أنه يذهب في اتجاه التوجه نحو إقامة الدولة الديمقراطية المدنية، دولة المواطنة التي يتساوى فيها الجميع.
في الواقع لم يصدر حتى الآن تفسير مقنع من قبل الجهة التي أشارت على الرئيس لإصدار مثل هذا القرار. ما ترك للناطقين، وبعض المستشارين والقانونيين أن يقدم كل منهم تفسيره الخاص، وفي أحيان ليست قليلة تخوف هؤلاء القدرة على تسويق مواقفهم وتفسيراتهم.
والحقيقة هي أن صدور القرار على هذا النحو يثير تساؤلات وتحفظات، لكن الأمر يتعدى التساؤل والتحفظ والحيرة، حين يتخذ الأمر طابع الاختلاف الفكري السياسي، خصوصاً وأن المجتمع الفلسطيني لم يعرف عبر تاريخه صراعاً على الهوية الدينية، وأن غياب هذا البند التعريفي أو حضوره في بطاقة التعريف الوطنية، لا يعني بالضرورة لا وجود تمييز ولا وجود مساواة.
على أن مسألة التمييز سواء عبر الهوية التعريفية الوطنية، أو عبر إشارات محددة كانت في دول أخرى مثل جنوب افريقيا، وبعض الدول الافريقية، وابان حكم النازية في المانيا، كانت مقصودة، وتعكس توجهات لقمع فئات معينة، من السكان، والحط من كراماتهم، وفي لبنان خلال الحرب الأهلية في السبعينيات من القرن الماضي، أدت إلى ارتفاع معدلات القتل على الهوية.
الآن إسرائيل تشدد على ضرورة اعتراف الفلسطينيين بيهودية الدولة، وفي الواقع تميز السياسة العامة الإسرائيلية بين مواطنيها على أساس ديني وعرقي وهو ما يشكو منه الفلسطينيون من مواطني دولة إسرائيل. وفي الأشهر الأخيرة دأبت الحكومة الإسرائيلية وأوساط عديدة في إسرائيل على التمييز بين الفلسطينيين المسيحيين عن الفلسطينيين المسلمين، في محاولة لشق الصف الفلسطيني، وتأليب الفلسطينيين على بعضهم البعض، كما فعلت في وقت سابق حين تعاملت مع الفلسطينيين الدروز بطريقة مختلفة عن بقية الفلسطينيين.
من المناسب أن نلاحظ قرار الرئيسي عباس في سياق الحملة الفلسطينية التي، تسعى لإقناع العالم، بأنهم مخلصون لتحقيق السلام، وملتزمون بقرارات الشرعية الدولية، وأنهم مستعدون لدفع ثمن السلام، وبالتالي فإنهم يقدمون نموذجاً مختلفاً عن إسرائيل، التي تتحمل المسؤولية عن فشل جهود السلام، والتي تنزلق أكثر فأكثر نحو العنصرية.
إن إصرار إسرائيل على شرط يهودية الدولة، ينطوي على أبعاد عنصرية فاضحة، فضلاً عن كونها تعكس رغبة إسرائيل وسعيها لشطب حق الفلسطينيين في العودة والتخلص من مواطنيها الفلسطينيين، ولذلك كان من الضروري رفض ومقاومة هذه السياسة من خلال ما تيسر من وسائل.
أنا أفهم أو أريد أن افهم بأن قرار الرئيس، يشكل جزءاً من حملة علاقات عامة تستهدف فضح المنطق الإسرائيلي، وتحقيق تفهم أوسع وأعمق من قبل المجتمع الدولي للموقف الفلسطيني إزاء المفاوضات الجارية.
ولا أدعي إطلاقاً بأن واقع الحال سواء في الضفة أو غزة، قائم على أساس احترام حقوق المواطنين، وعلى تحقيق المساواة، ولا حتى هو قائم على احترام النظام الأساسي وسيادة القانون، لكني أذهب في تفسير قرار الرئيس إلى وجود منهجين، ورؤيتين للدولة الفلسطينية التي نريدها.
من حق الحركات الإسلامية أن تسعى من أجل إقامة دولة فلسطينية ذات طابع إسلامي، وتقوم على أساس دستور يتبنى الشريعة الإسلامية باعتبارها المصدر الأساسي للتشريع، بل ومن حق أي طرف أن يتبنى ويعمل من أجل تحقيق دولة الخلافة الإسلامية. وفي المقابل يعيدنا قرار الرئيس إلى جوهر المشروع الوطني الفلسطيني الأول، بعد اندلاع الثورة المسلحة عام 1967، حيث كانت برامج منظمة التحرير والفصائل الرئيسية، تؤكد على أن النضال الوطني يستهدف تحرير كل أرض فلسطين التاريخية، وإقامة دولة ديمقراطية، مدنية، يتساوى فيها الجميع، حقوقاً وواجبات، بغض النظر عن الدين أو اللون أو الجنس.. لا أدري إن كان الرئيس يقصد ذلك أم لا، ولكن قراره بالتأكيد يقدم للعالم النموذج الذي يناضل الفلسطينيون من أجل تحقيقه لدولتهم، مقابل النموذج الإسرائيلي العنصري. في كل الأحوال يحتاج الفلسطينيون من خلال الحوار، أن يتفقوا على طبيعة الدولة، أو النظام الذي يرغبون في تحقيقه سواء في حال قيام الدولة، أو في حال استمر الحال على حاله، طالما أن هناك آراء ومواقف متباينة. وبالرغم من أن النظام الأساسي حدد بوضوح طبيعة النظام السياسي، بالمعنى الذي يشكل مرجعية لقرار الرئيس.