يمكننا الجزم بأن «مشروع كيري» لحل القضية الفلسطينية قد يكون أخطر مشروع سياسي قُدم خلال العقود الأربعة الماضية لحل الصراع العربي الإسرائيلي.
ويكتسب خطورته من أنه يجري العمل عليه في ظل ظروف عربية صعبة، حيث تواجه كل دولة من الدول المحيطة بـ«إسرائيل» مشاكلها الخاصة وتخوض معاركها مع إرهاب دولي متعدد المنابت والأهداف والغايات؛ ليس بينها تهديد أمن «إسرائيل»، أما الجانب الثاني في خطورة هذا المشروع فهو استغلال هذه الظروف المعقدة التي تمر بها المنطقة العربية عبر محاولة كيري ربط الموافقة على مشروعه مع استقرار المنطقة كصفقة سياسية متكاملة، ملخصها الأمن لـ«إسرائيل» مقابل إنهاء الصراعات الدامية مع الإرهاب الدولي.
يُقدم مشروع كيري للفلسطينيين وعداً بإقامة الدولة الفلسطينية على أراضي 67 مع تبادل في الأراضي بين الجانبين «الإسرائيلي» والفلسطيني، مع الأخذ بعين الاعتبار التغيرات السكانية والديموغرافية التي طرأت على الأرض بعد الاحتلال وما يقصده بالذات التغيير الديموغرافي الذي تحقق بوجود أكثر من 400 ألف مستوطن في المستعمرات التي أقيمت على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.
ترى خطة كيري أن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين يتم حلها بالتعويض، مع رفض أي حديث عن حق العودة، وهذا فخٌ آخر يتم نصبه للفلسطينيين والعرب، حيث يطرح مبعوث كيري للسلام مارتن إنديك مبدأ التعويضات المتبادلة بين العرب واليهود العرب والذين هاجروا إلى «إسرائيل»، وفي الوقت الذي تقدر فيه الخارجية الأميركية و«إسرائيل» تعويضات الفلسطينيين بما يُقارب 50 مليار دولار تزيد أو تنقص قليلاً، تقدر «إسرائيل» تعويضات اليهود بـ 300 مليار دولار، ما يعني أن العرب سيقومون، على حسابهم الخاص، بتمويل التعويضات للفلسطينيين واليهود من الأصول العربية، ما يذكرنا بقصة تعويضات ألمانيا للكيان الصهيوني بعد الحرب العالمية الثانية تكفيراً عن جرائم النازية ضد اليهود.
تتحدث المصادر الأميركية عن إمكانية هجرة وتجنيس مليوني لاجئ فلسطيني إلى كندا وأوستراليا والولايات المتحدة، ما يعني تهجير الشباب الفلسطيني دون سن الأربعين من أماكن وجودهم في الشتات الفلسطيني، وذلك لتجفيف منابع المقاومة ضد «إسرائيل» وإضعافها بتهجير الشباب القادر على حمل السلاح وراية الكفاح الوطني من أجل تحقيق الأهداف والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، مستغلة بذلك انسداد الأفق السياسي والاقتصادي والاجتماعي أمام هؤلاء الشباب وتنامي شعورهم بالاضطهاد في مختلف أماكن وجودهم، وتغذية أحلام زائفة بأن الهجرة والجنسية الجديدة يمكن أن تكونا حافزاً لتوفير فرص حياة أفضل.
وعلى الرغم من التشدد اللفظي الظاهري الذي تبديه قيادة السلطة الفلسطينية ومفاوضيها بمعارضة مشروع كيري ورفضه، إلا أن الدلائل تشير الى أن ما يجري في السر هو شيء مختلف تماماً يمكن أن نلمسه من التصريحات الرسمية للسلطة الفلسطينية بتقديم تطمينات مجانية للجانب «الإسرائيلي» والأميركي بأنه سيتم قمع أي تحرك فلسطيني خارج إطار البحث عن حل سياسي أو الحديث عن حق العودة للفلسطينيين، وأبلغ تعبير عن هذا الموضوع تصريح رئيس السلطة الفلسطينية بأنه سيمنع بالقوة خيار العودة إلى الكفاح المسلح أو انتفاضة شعبية ثالثة، وللأسف لا تدرك السلطة الفلسطينية أن مشروعيتها قامت على أساس اعتراف الشعب الفلسطيني وتأييده لمنظمة التحرير الفلسطينية، وليس على أساس الاعتراف «الإسرائيلي» والأميركي بها. فقد دفع الشعب الفلسطيني الغالي والنفيس لتتقدم منظمة التحرير بالمطالبة بحقوقه التاريخية المشروعة، إلا أنه لم يقبض منها سوى الفساد، والقمع الذي يعانيه على أيدي قادته السياسيين الذين ائتمنوا طوال 40 عاماً على حقوق الشعب الفلسطيني.
إن التبني غير المعلن لمشروع كيري من قبل الحكومة الأردنية هو حصيلة سياسات أردنية في الجانبين الاقتصادي والسياسي طوال العقدين المنصرمين بعد اتفاقية وادي عربة التي روّج فيها السياسيون الأردنيّون شعار «أنه تم إنقاذ الأردن من المخططات الإسرائيلية». وتحت هذا الشعار الرسمي، تم إنفاذ سياسات مختلفة صبت في النهاية في خدمة المشروع الصهيوني، من دون أن توفر للأردن أية حماية أو حصانة، بل على العكس جرى وضع الأردن تحت الوصاية «الإسرائيلية» بالكامل.
على المستوى الاقتصادي، يجري استعمال الأردن كقاعدة تصديرية للمنتجات «الإسرائيلية» إلى الدول المجاورة، وخاصة المنتجات الزراعية، في الوقت الذي ترفض فيه الدول الأوروبية، التي أنشأت الكيان الصهيوني، استقبال هذه السلع «الإسرائيلية» المنتجة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 كموقف أوروبي يرفض الاحتلال «الإسرائيلي».
جرى ربط الأردن اقتصادياً بالكيان الصهيوني طوال العشرين سنة الماضية عبر مشاريع البنية التحتية والمشاريع الاقتصادية ذات المنفعة المتبادلة كمشروع «قناة البحرين» مثلاً، والذي سيقام على الأراضي الأردنية ويتحمل الأردن تكلفة البناء وتستفيد «إسرائيل» منه بـ 350 مليون متر مكعب من الماء، ما يشكل تقريباً ثلث الكمية المنتجة من المياه المحلاة. ويجري حديث غير معلن عن تزويد «إسرائيل» بـ 30 مليون متر مكعب من مياه حوض الديسي، بحجة عدم قدرة شبكة المياه الأردنية على استيعاب كامل الكمية المنتجة من الحوض والبالغة 100 مليون متر مكعب من المياه، يتم تزويد جنوب «إسرائيل» بها، وتشتري مقابلها الأردن 20 مليون متر مكعب من مياه بحيرة طبرية الملوثة، ويجري تزويد سكان المناطق الشمالية بها بعد عملية تكريرها. وبالمناسبة، فقد تم طرح مشروع الديسي في بداية الثمانينيات وتم تأجيله طوال الفترة السابقة لأكثر من 20 عاماً بسبب التهديدات «الإسرائيلية» وإصرارها على الحصول على 30% من المياه المستخرجة بحجة حقوق الجوار.
كما يجري الحديث علناً عن ضرورة استيراد الغاز من الكيان الصهيوني لإنقاذ صناعة البوتاس ورفع قدرتها على المنافسة، تحت حجج عدم قدرة مصر على الوفاء بالتزامها بتلبية حاجات الأردن من الغاز المصري كمقدمة لربط الأردن بشبكة الغاز «الإسرائيلية» مستقبلاً.
أما في ما يخص السياسة المالية للحكومة الأردنية والتي في جوهرها تتناغم مع سياسة إقامة التحالف الجمركي الاقتصادي بين الكيان الصهيوني والسلطة الفلسطينية والأردن (البنلوكس)، وطوال عشرين عاماً يجري تطوير السياسات المالية والضريبية والجمركية المختلفة لتقترب من المستويات الإسرائيلية من دون الأخذ بالاعتبار الأوضاع المعيشية للأردنيين، حيث تقترب معدلات السياسة المالية الآن من معدلات ومستويات الضفة الغربية، وستستمر بالصعود حتى تصل إلى المستويات «الإسرائيلية» من دون مراعاة حالة الضنك المعيشية التي يعانيها الأردنيون. ويمكن للاقتصاديين المعنيين دراسة وتحليل السياسة المالية والاقتصادية للدول الثلاث، وبالتأكيد سيصلون إلى هذه النتائج.
على المستوى السياسي والديموغرافي، استمر الأردن بسياسة تجنيس الفلسطينيين من الأراضي المحتلة عام 1967، ويقدر عدد هؤلاء بمئات الآلاف، كما أن عدد مواطني الضفة الغربية المقيمين في الأردن، والحاصلين على وضع ما قبل التجنيس الكامل، وصل إلى مليون فلسطيني بحسب تصريحات وزارة الداخلية عام 2011، ثم فجأة بدأ الحديث عن مليوني فلسطيني سيتم تجنيسهم بناءً على تصريحات رئيس الديوان الملكي ورئيس الوزراء في الشهرين الأخيرين، من دون أي تفسير أو حقائق على الأرض تفسر مضاعفة الرقم خلال عامين سوى الاستمرار في سياسة توطين الفلسطينيين في الأردن تنفيذاً لمشروع كيري في إنهاء القضية الفلسطينية.
السياسة الخارجية الأردنية تتناغم بشكل مطلق مع السياسات «الإسرائيلية» والأميركية، وليس أبلغ من دليل على هذا أكثر من الاحتجاج الرسمي الأردني على مجرد فكرة انسحاب جيش الاحتلال الصهيوني من منطقة الأغوار، والتي طرحها كيري في مشروعه، ناهيك عن المواقف الرسمية الأردنية تجاه سوريا الشقيقة، وآخرها ذلك الموقف المعيب الذي اتخذه الأردن في مجلس الأمن بتقديم مشروع «فرض عقوبات على سوريا ما لم تلتزم بتوفير ممرات أمنية لتقديم الإغاثة الإنسانية» كمحاولة التفافية لإيجاد مبرر للتدخل الدولي ضد الشقيقة سوريا وتدميرها.
وعلى الرغم من صعوبة الأوضاع العربية، فإن هذا المشروع ليس إلا سلسلة من المؤامرات المتتابعة على شعوبنا العربية لتمزيقها بهدف تحقيق الأمن لدولة الكيان الصهيوني، إلا أنها كسابقاتها لن يُكتب لها الحياة وستفشلها شعوبنا وستمتلك القدرة على إيجاد سبل وطرق جديدة للمقاومة وتدمير الكيان الصهيوني وتحويل الانكفاء الأميركي إلى هزيمة وخروج مدوٍّ من المنطقة وستعلو راية المقاومة بعد انتصار الجيش العربي السوري والجيش العراقي والمقاومة اللبنانية في حربها على الإرهاب الدولي. وسيفرض واقع هذا الانتصار التفكير جدياً بأهمية وضرورة بناء التحالف المشرقي الذي سيجعل الأردن على خط النار أمام هذا التحالف، وعندها عليه الاختيار بين مصالح الشعب الأردني والفلسطيني في الارتباط بهذا التحالف أو الاستمرار في خدمة المصالح الأميركية والصهيونية.
* عضو الأمانة العامة لحركة اليسار الاجتماعي الأردني