بقلم / ياسر عرفات الخواجا
دأب الكيان الصهيوني على أن يقدم نفسه عالميًا على أنه الدولة الديمقراطية الوحيدة على مستوى المنطقة، وأنه دولة محكومة بالقانون، إلا أنه ومن خلال إمعان نظر فإننا نرى أن الديمقراطية التي تدعيها هذه الدولة لا أصل لها، فهذه الدولة لا دستور لها، وغياب الدستور يعنى أن هذا الكيان يواجه أزمة عميقة، والأسئلة المطروحة هنا:
ما الذي يمنع دولة الكيان من كتابة دستور لها؟ هل هناك مطامع ومآرب أخرى لهم من وراء ذلك؟ فإذا كان الكيان الصهيوني لا يحتكم لبناء دستوري يحدد الإطار القانوني لكل مشاكله الداخلية والخارجية فإن الأمر سوف يعتريه شيء من الريبة والتناقض في مفهوم وتعريف الدولة الديمقراطية، التي يعدُّ الدستور من أهم الخصائص واللبنات الأساسية التي تؤكد على ديمقراطيتها، فوجود الدستور يعبر عن الترتيبات والنظم القانونية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، وهنا لابد من تعريف ولو بشكل مختصر للتدليل على الفرق بين الدستور وبين القانون الذي يمارسه الكيان الصهيوني في تسير الحياة داخله:
الدستور: يعد الدستور سلطة أعلى من القانون الأساسي، ويجب ألا يتخطاه الأشخاص بأي شكل من الأشكال، فمن خلاله يتم وضع القوانين التي تنظم عمل الدولة، ومن خلاله أيضًا يوضع الهيكل الرئيسي للحكومة والعلاقات التي تجمع السلطات الثلاث: (التنفيذية، التشريعية، القضائية)، بالإضافة لتنظيم عمل الرئيس، والدولة. فالدستور يحدد شكل الدولة، ويحدد نظام الحكم، وطبيعة الحكومة: (برلمانية أو رئاسية)، ويقرر الحقوق والحريات الأساسية للأفراد، ويضع الضمانات لها. ويعدُّ الفرق الرئيسي بين القانون والدستور أن القانون يلي الدستور في الأهمية والمرتبة، فإذا كان الأمر كذلك، فلا يجوز للقانون أن يصدر بالمخالفة للدستور الذي يعتبر المصدر للقانون الأساسي، وإذا تمت المخالفة، فإنه يتم الطعن فيه -أي القانون- أمام المحكمة الدستورية العليا ويتم إلغاؤه لمخالفته الدستور، ولا يمكن التطرق للدستور بالإلغاء أو التعديل إلا من خلال الاستفتاء الشعبي حصرًا، وهذا نادر الحدوث ولم يحصل كثيرًا.
القانون: هو مجموعة قواعد عامة مجرد وملزمة، تنظم العلاقة بين الأشخاص، ويقرر جزاء لمخالفته، وتطبق بالحال والمستقبل. وهو يلي الدستور في الأهمية، ويتم إصداره من قبل البرلمان أو الرئيس أو أحد الوزراء، ويجوز إلغاؤه أو تعديله بالإرادة المنفردة عن طريق البرلمان أو الرئيس، ويُحدَّث بشكل دائم ومتقارب على عكس الدستور، ويعالج القانون أيضًا موضوعات تخصصات مثل: القانون الجنائي، والمدني، والتجاري، وغيره من القوانين.
وتجدر الإشارة إلى أن مشكلة عدم وجود دستور لدى الكيان تزيد من حدة الانقسام الصهيوني على المستوى الداخلي، وتشكل جدلاً واسعاً، وتكشف عن أزمة عميقة بين شرائح وأحزاب المجتمع الصهيوني، وربما تكون عملية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق "إسحاق رابين" كان يدلل على حجم الكراهية والعنصرية والتصورات التي يحملها اليمين الديني والقومي لشكل الدولة، فلقد كان اغتياله نابعاً من دوافع دينية تتمثل برفض إعطاء الفلسطينيين أجزاء من الضفة (يهودا والسامرة)، كونهم يعتبرونها حسب تعاليم الشريعة التوراتية جزءًا من دولتهم "إسرائيل" الكبرى.
هذا الانقسام الحاد يبرز ويظهر ويزداد تعمقًا كلما كان هناك خلاف وصدام له علاقة بالخلافات والتناقضات الكبيرة والعميقة حول الرؤى والتصورات بين التيارات المختلفة من اليسار الليبرالي واليمين الديني حول تعريفات كثيرة تمس أصل الدستور، منها مثلاً: (مَنْ هو المواطن اليهودي؟)، والحقيقة أنه لا يمكن أن نجد تعريفًا واضحًا ومتفقاً عليه حول تعريف المواطنة، فاليمين المتدين يرى أن المواطن من كان من أم يهودية فقط، ولا يعترفون بيهودية بعض الشرائح اليهودية
مثل: الهنود والفلاشا الذين قدموا من أثيوبيا، واليهود الذين قدموا من روسيا الذين يعتبرونهم قد حصلوا على الجنسية بناءً على أجداده اليهود، بل ينظرون إليهم من منظور وأسباب اعتقادية خاصة بهم، فاليهود الروس في نظر اليمين هم مسيحيون ولا تربطهم أي علاقة باليهودية، وكذلك ينظرون إلى فلسطيني (1948) الذين حصلوا على الجنسية نظرة عنصرية متمثلة بالمطالبة بطردهم وسحب الجنسية منهم، بل ويعدّونهم خطرًا ديموغرافياً يعيق تجسيد مفهوم الدولة اليهودية التوراتية.
ومن هذه التعريفات أيضًا: (مفهوم الحدود) فما زال الصهاينة يحلمون بإسرائيل الكبرى التي تشمل جنوب لبنان حتى الليطاني، وجنوب سوريا والأردن وفلسطين وشبه جزيرة سيناء، ويركز على ذلك العَلَم الذي يعدّونه رمزًا للكيان، فاللون الأبيض فيه يرمز إلى إفراغ الأرض من الفلسطينيين، وإبقاء الشعب اليهودي -شعب الله المختار- عليها، بينما ترمز الخطوط الزرقاء إلى حدود إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، بينما ترمز نجمة داود الى درع داود كما يدَّعون.
فكتابة الدستور سيدفع الكيان إلى تحديد حدود كيانه التي مازالت حلمًا لدى الحركة الصهيونية بكل مكوناتها الدينية والعلمانية. فمنذ نشأة الكيان الصهيوني عام (1948) والجدل والخلاف دائر حول عدم القدرة على كتابته إلى يومنا هذا، مما يشير ويدلل على أن الكيان الصهيوني لديه مخططات ومطامع جغرافية ودينية في المنطقة. ولكن في المقابل فإن استمرار غياب الدستور يعكس حالة التأزم في الأوضاع الداخلية، ويزيد من الانشقاقات والصراعات الداخلية والخلافات الحزبية والمجتمعية التي ماتزال أحداثها وارتداداتها إلى يومنا هذا نتيجة لهذا الغياب.
عدة أشهر متواصلة من موجات التصعيد التي تقودها المعارضة احتجاجًا على قرار حكومة "نتنياهو" تمرير قوانين تحد من سلطة القضاء، والتي تراها المعارضة من منظورها محاولة من "نتنياهو" وائتلافه الحكومي لتحويل الكيان من ديمقراطي إلى دكتاتوري من خلال الهيمنة الدينية على الحكم. فكل هذه الانقسامات والخلافات التي أدت لزيادة الانفصام المجتمعي والسياسي كانت نتيجة لعدم كتابة الدستور الذي لم يكتب لأنه يتعارض مع فكرة ومصالح ومطامع الصهيونية التوسعية، لكن السؤال المهم هنا: هل الانقسامات والوضع السياسي الداخلي الهش سيؤدى إلى انهيار الكيان؟؟ ... صحيح أن ما شاهدناه في الأزمة الأخيرة يدلل على عمق الأزمة وحدَّتها، مما يشير إلى مزيد من التصاعد في حدة الانقسامات، وخصوصاً أنها في هذه المرة امتدت إلى مؤسسات تعتبر حساسة وهامة كالجيش والأمن اللتين تعتبران ركيزة بوتقة الصهر الصهيونية.
لكن من وجهة نظري الخاصة فإن هذه الأحداث لن تؤدى لانهيار هذا الكيان الذي مازال يحافظ على قوته وقدراته وتفوقه العسكري على كل دول المنطقة، إضافة إلى التفوق الاقتصادي والأمني، وخصوصًا على صعيد التكنولوجيا التجسسية، ويمكن انهيار هذا الكيان بثلاثة عوامل:
- العامل الداخلي: والذي يظهر أن المجتمع الصهيوني ذاهب الى مزيد من الهشاشة والزعزعة والانقسام الداخلي لعدم وجود دستور يضبط علاقة الأحزاب السياسية ويحكمها في إطار قانوني لا يمكن التهاون فيه أو إلغاؤه أو تعديله إلا من خلال الاستفتاء الشعبي من جهة، ومن جهة آخرة تنامى قوة اليمين الديني الذي يستغل القانون الأساسي، ويتحكم في إلغائه أو تغييره، من أجل أحكام قوتها في رسم السياسات وفرض نفوذها اكثر
- العامل الخارجي: ويتمثل في قدرة وتقدم قوى المقاومة والممانعة ومحورها، وقدرتها على استنزاف الكيان وردعه ومحاصرته، والمقاومة تتقدم بهذا الجانب.
- الصعيد الدولي: وقف الدعم اللوجيستي: (السياسي والعسكري والقانوني)، والتراجع عن حماية الكيان من قبل الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، وهذا أمر صعب في الوضع الحالي، فوجود الكيان الصهيوني قوى ومتماسك هو مطلب غربي وأمريكي أكثر من ذي قبل، كما أن الحاجة ضرورية لحماية وصيانة المشاريع الأمريكية في المنطقة، وخصوصًا أنهما يخوضان حربًا مصيرية بالوكالة الأوكرانية في مواجهة روسيا