يقلم ثابت العمور
أُسدل الستار على مرسوم الذهاب للانتخابات التشريعية بإعلان التأجيل إلى أجل غير مسمى، ولا شك بأن هناك تبعات وتداعيات كبيرة وكثيرة ستترتب على هذا التأجيل ولكنها لا تقل أهمية وفعالية عن الذهاب لانتخابات تحت حراب الاحتلال، ولست بصدد إجراء قراءة لتلك التبعات أو حيثيات التأجيل وأسبابه وقد تناولتها كثيرا من الكتابات والقراءات. وبما أن المشهد قد بات خارج مسار الذهاب للانتخابات فكان لابد من التقاط القراءات والدعوات والمبادرات التي تركز خطابها خارج الانتخابات ورفض المشاركة فيها أو الاقتراب منها وفي المركز من هذا الموقف تقف حركة الجهاد الإسلامي الفصيل الوحيد الذي اصدر بيان رسمي في التاسع من فبراير عقب لقاءات القاهرة مباشرة قرر بموجبه عدم المشاركة في انتخابات مسقوفة باتفاق أوسلو.
وجاء في بيان الحركة المشار إليه التالي: " إننا في حركة الجهاد الإسلامي نرى أن المدخل الصحيح للوحدة الوطنية يتمثل في التوافق على برنامج سياسي يعزز صمود الشعب ويحمي مقاومته وإعادة بناء وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية....". وكانت حينها الانتخابات قد هجمت على المشهد وأمسكت بتلابيبه، ولم تكن سيناريوهات التأجيل قد لاحت حتى وصلنا للحظة الحاسمة بإعلان التأجيل مع ما ترتب عليه وما سيترتب عليه لاحقا.
عقب إعلان تأجيل الانتخابات تقدمت حركة الجهاد الإسلامي فورا للمشهد ولم تنزوي ولم تتلقف الإخفاق الحاصل وتبني عليه خطاب تتصيد فيها فراسة فكرها وصوابية موقفها، فقدمت دعوة جديدة تضاف لقائمة طويلة من المبادرات التي قدمتها الحركة على مدار سنوات الانقسام العجاف - على الرغم بأنها لم تكن طرفا في الانقسام ولم تكن شريكا في السلطة ورفضت المشاركة في الانتخابات في كل المرات- تقدمت هذه المرة وعلى وقع إعلان تأجيل الانتخابات عقب انتهاء الاجتماع الذي عُقد في رام الله، وعلى لسان أمينها العام المجاهد زياد النخالة بدعوة وطنية شاملة في الثلاثين من ابريل من أجل التوافق على برنامج وطني لمجابهة الاحتلال قال فيه :" إن ما يجري يؤكد على أن الجهاد والمقاومة ضد العدو الصهيوني هما الحقيقة الثابتة التي على الجميع أن يتعاطى معها بجدية وألا يقفز عنها.. معربا عن رفضه الشديد لمحاولة التعايش مع الاحتلال عبر الانتخابات، مشيراً إلى أن الوقائع السابقة، منذ توقيع اتفاق أوسلو اللعين، أثبتت أن هذه مجرد أوهام كاذبة".
ولم يكتف بالتوصيف فقدم شهادة للتاريخ مذكر الفرقاء الذين يراهنون على سراب الانتخابات بالواقع الذي يعيشه الشعب الفلسطيني ومعاناته، وملاحقات الاحتلال لشعبنا وهدم للبيوت، وتمدد الاستيطان في القدس وعموم الضفة الغربية، وما يجري من اقتحامات للمسجد الأقصى والعدوان على أحياء القدس وتغول المستوطنين على ممتلكات شعبنا وحقوقه، مؤكداً أننا ما زلنا نعيش تحت الاحتلال الذي يجب أن نقاومه لا أن نستجديه أو نتعايش معه بدعاوى باطلة.
وقدم في دعوته خارطة طريق من بند واحد فقط، ملخصه أننا شعب تحت الاحتلال وعلينا أن نتوافق على برنامجٍ وطني يتناسب مع هذا الفهم، وأن أي خيار آخر هو إضاعة لمزيد من الوقت ومزيد من الجهد. فهل هناك توصيف لواقع المشهد الفلسطيني غير ذلك؟، وهل تختلف قراءة أي فصيل فلسطيني عن هذا التوصيف؟، وقد جرب البعض منا كل الخيارات طوال أكثر من ربع قرن من التيه في نفق التسوية المزعومة، ثم خيار الانتخابات الذي بموجبه دخلنا طوال عقد ونصف من الانقسام بعد انتخابات تمت بموجب اتفاق أوسلو، بدليل أن واحدا من أسباب إخفاق تجربة تلك الانتخابات في العام 2006 هي شروط الرباعية الدولية في الاعتراف بالاحتلال. ألم يرد في البيان الختامي لاجتماع رام الله المشار إليه أعلاه عبارة تشكيل حكومة وحدة وطنية تقبل بالاتفاقيات الدولية..! والسؤال مرة أخرى لماذا يأخذنا البعض لمعارك جانبية داخلية ترتبط كلها بإرادة الاحتلال على حساب مواجهته والاشتباك معه ومشاغلته؟.
لم تكن دعوة الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد النخالة عقب تأجيل الانتخابات أول الدعوات أو أول المبادرات التي تقدمها حركة الجهاد، ففي الخامس من أكتوبر العام 2018 وفي أول خطاب سياسي له عقب انتخابه أمين عام لحركة الجهاد الإسلامي طرح النخالة في خطابه مبادرة لإنهاء الانقسام الفلسطيني الداخلي بين حركتي حماس وفتح وصفها في حينه "بجسر العبور للمصالحة" وجاءت من خمس نقاط، أولا: اعتبار المصالحة أولوية وطنية في صراعنا مع العدو وهي مفتاحٌ لتجاوز الخلافات والصراعات داخل المجتمع الفلسطيني. ثانيا: استرداد المصالحة الوطنية لصالح الكل الفلسطيني، فجميع الشعب الفلسطيني ضحية لهذا الخلاف. ثالثا: الدعوة فوراً إلى لقاء اللجنة التحضيرية التي التقت في بيروت بتاريخ (10 كانون الثاني 2017) ومثلت الكل الفلسطيني إلى لقاء في القاهرة والشروع في معالجة كل الخلافات والتباينات بيننا وأن نبني على القرارات التي اتخذتها في حينه. رابعا: التأكيد من قبل قوى المقاومة بأن التهدئة لن تلزمنا بعدم الدفاع عن شعبنا ولن نذهب بها إلى اتفاقيات سياسية مع العدو. خامسا: أن يلتزم الجميع بتطوير سبل المقاومة بكافة أشكالها وبحسب ما هو ممكن في الضفة والقدس من أجل مواجهة ما يُسمونه صفقة القرن والتي هي الإخراج الحديث لتصفية ما تبقى من القضية الفلسطينية وإنهاء حقوقنا إلى الأبد.
بعد عامين على مبادرة "جسر العبور للمصالحة" جرت خلالها مياه كثيرة في المشهد الفلسطيني، عاد الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في الثالث من سبتمبر 2020 وخلال كلمته في مؤتمر الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية، الذي تم بالتزامن في العاصمة اللبنانية بيروت، ومقر المقاطعة برام الله. وجدد طرح مبادرة النقاط العشرة التي سبق وان اقترحها الأمين العام الراحل الدكتور رمضان شلح رحمه الله في العام 2016، كمخرج من الأزمة التي تعصف بالمشهد الفلسطيني الداخلي.
وسأتوقف عند بعض مما جاء في كلمة النخالة واللغة الصادقة والخطاب المسئول والجريء عندما قال :" ينظر إلينا الشعب الفلسطيني اليوم بكثير من الأمل، وأيضًا بكثير من الإحباط، وعلينا أن نختار نحن ما الذي سنهديه للشعب الفلسطيني". وتابع: "إذا أردنا الأمل، أن ننتقل من موقفنا الذي نراوح فيه منذ الاعتراف بالعدو الصهيوني، ومنحه الحق بأرضنا ومقدساتنا، حتى هذه اللحظة التي يجردنا من كل ما تبقى لنا في فلسطين، متمثلا في تهويد القدس والضفة الغربية، والإعلان عن إنهاء مشروع السلام الوهم الذي تمثل باتفاقيات أوسلو". وأضاف: "هذه هي الحقيقة الوحيدة الماثلة أمامنا الآن، ألا تستحق منا موقفًا موحدًا تجاه التحديات القائمة؟! فلم يعد لدينا ترف الاختلاف، ولم يعد لدينا شيء، وأصبحت الحقيقة بارزة لنا وجهًا لوجه، فأمامنا المشروع الصهيوني يتمدد في المنطقة ويحقق إنجازات لم تكن في أحلام مؤسسيه، ونحن كنا جسرًا لهذا التمدد، فهل نتوقف، ونعيد حساباتنا؟". فلماذا لا نعيد حساباتنا؟!!
الآن عدنا لما قبل مرسوم الانتخابات، وبات المشهد الفلسطيني مرتبك تلوح فيه معالم العودة للتراشق والانقسام والاستدارة لمعركة لا منتصر فيها إلا الاحتلال، في المقابل نرى خطاب وطني مقاوم يُعيد الدعوة مرة تلو الأخرى للخروج من عنق الزجاجة. ويُقدم المبادرة ويتوسط بين الفرقاء بخارطة طريق تخاطب الكلّ الوطني الفلسطيني، وتطرح حلول في الصمود والمصالحة والمقاومة لمواجهة التحديات والتمهيد للانتصار. ويُشخص الواقع الذي يتآكل فيه المشروع الوطني الفلسطيني لصالح المشروع الصهيوني.
إن الاستمرار في الرهان على التسوية والبقاء في مربع أوسلو، واختصار القضية الفلسطينية من قضية تحرير مركزية إلى معركة انتخابات تنتظر موافقة الاحتلال على إجرائها، سيبقينا في مربع التيه الأول، وإن المخرج منه أننا أمام دعوة تدعونا جميعا للقاء وطني شامل جامع نتدارس فيه واقعنا ونُقَيم خطواتنا ونراجع تجاربنا، ونعود لإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني على أساس موقعنا في المشهد كشعب تحت الاحتلال، وبدلا من الانزلاق للصراع الداخلي على حساب الاشتباك مع العدو لنتفق ونتوافق على برنامج وطني يتناسب مع هذا الفهم، لا سيما وأن كل الخيارات الأخرى هي إضاعة للوقت وللجهد.
لقد أفلحت حركة الجهاد الإسلامي ونجحت منذ انطلاقتها في التوفيق والجمع بين الوطني والإسلامي ووضعت مقاومة الاحتلال على رأس أولوياتها وأهدافها في فكرها وخطابها، ولا زالت تسعى من أجل التوفيق وبناء الوحدة الوطنية الحقيقية على قاعدة مقاومة الاحتلال