استيطان وراء آخر واقتحامات للمسجد الأقصى، هذا فقط ما يفعله رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي أصبح يتمتع بقوة أكبر في وجه الإدارة الأميركية، خصوصاً بعد فوز الجمهوريين في انتخابات التجديد النصفي بالكونغرس واستحواذهم على المجلسين.
الدكتور صائب عريقات الذي طار إلى واشنطن للقاء وزير الخارجية الأميركي جون كيري، اشتكى للأخير من وقاحة نتنياهو وحسمه لخيار الاستيطان على المفاوضات و"السلام"، معتبراً أن بناء 500 وحدة استيطانية جديدة في القدس الشرقية إنما هو صفعة موجهة لكيري.
هذه ليست الرسالة الأخيرة التي وجهها نتنياهو للإدارة الأميركية وحتى للفلسطينيين، فهو لا يستأذن أحداً حينما يقرر زيادة وتيرة الاستيطان، لكنه يأخذ بعين الاعتبار ربط الإعلان عن مشروعاته الاستيطانية بالتزامن مع حضور كيري إلى المنطقة، أو عشية لقاءات دبلوماسية أطرافها أميركيون وفلسطينيون.
نتنياهو دائماً هو الأذكى بين أقرانه من السياسيين في "إسرائيل"، فهو وإن كانت علاقته متوترة مع أوباما وكيري، إلا أنه يفضل عدم الرد عليهما لفظياً، وترك هذا الأمر لأزلامه من أمثال أفيغدور ليبرمان وموشي يعالون، أما نتنياهو فيرد بالشيء العملي.
نعم نتنياهو يرد بالاستيطان وبرسائل تكاد تكون أقسى من توجيه كل أنواع السباب والشتائم إلى كيري، خصوصاً وأن الأخير دائم التحمس حول" مشروعاته السلامية"، وفي كل مرة تصطدم هذه المشروعات بالإكثار من الإسهال الاستيطاني الذي ينسف عملية التسوية برمتها.
لقد كان نتنياهو يتطاول على أوباما حتى حين كان الديمقراطيون لاعباً مؤثراً في الكونجرس، لكن بعد سيطرة الجمهوريين على مجلسي الشيوخ والنواب، فإن نتنياهو سيزداد قوةً، مقابل زيادة ضعف أوباما الذي مني بخسارة قوية في هذه الانتخابات النصفية.
في كل الأحوال لم يكن نتنياهو يقيم حساباً أو وزناً لا لأوباما ولا لكيري، ولا يعني هذا أن العلاقة الاستراتيجية بين الطرفين الأميركي و"الإسرائيلي" سيئة، ربما هي ليست في أحسن حالاتها شخصياً مع الرجلين، لكن نتنياهو مطلع جيد على قواعد اللعبة، ويدرك كيف يتعامل مع الأميركان.
ثم إن أوباما بعدم قدرته على التعامل مع ملفات كثيرة، لعل أهمها الملف السوري وعدم وضوح الاستراتيجية الأميركية هناك، هي ما أفشلته وأفشلت حزبه في الانتخابات النصفية، الأمر الذي سينعكس على أداء الرئيس خلال فترة ما تبقى من ولايته.
في أوج قوته لم يفعل أوباما شيئاً للقضية الفلسطينية، ومثلما تطور الاستيطان الإسرائيلي في عهد جورج بوش الابن، الذي نددت إدارته السابقة بالأعمال الاستيطانية الإسرائيلية، فإن أوباما لن يتمكن في ضعفه الحالي من فعل شيء لصالح القضية الفلسطينية.
في كل الأحوال لم تكن القضية الفلسطينية تشهد اهتماماً لدى إدارة أوباما الحالية، بصرف النظر عن المرات الكثيرة التي حط فيها وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى الأراضي الفلسطينية، لأن التجربة أثبتت أن أوباما عضو في نادي القول وليس الفعل.
ويبدو أن القضية الفلسطينية ستشهد تراجعاً بعد الانتخابات النصفية الأميركية والفوز الساحق لحزب الجمهوريين، خصوصاً وأن أكثر من 90% من أعضاء هذا الحزب يدعمون "إسرائيل" بقوة، في حين ربما لا يتجاوز عدد أولئك الذين يتعاطفون مع الفلسطينيين سوى 6% حسب استطلاع أميركي حديث.
هذا الدعم الأميركي القوي لـ"إسرائيل" هو الذي يجعل نتنياهو يرفض "السلام" الذي يريده الفلسطينيون، ويتمسك بما يعتبره "حق إسرائيل" في مواصلة الاستيطان وتهويد القدس، خصوصاً وأنه الأقوى في هذه المعادلة، وسط عدم انتباه دولي للقضية الفلسطينية.
لعل السيناريو الأوفر حظاً والمستند إلى الواقع بنظر نتنياهو، هو محاولة إيجاد مخرج آمن لما يدور في القدس المحتلة، ومواصلة استكمال تهويد القدس بمباركة أميركية وصمتين غربي وعربي، وإبقاء الوضع السياسي مع الطرف الفلسطيني في حالة لا يقين.
لا يريد نتنياهو بالتأكيد مواجهة الفلسطينيين، لأن هذا سيفرمل مخططاته الاستيطانية والتوسعية في الضفة الغربية وسيفتح أبصاراً كثيرة على ما يجري حالياً، ما يدعوه إلى الادعاء بضرورة التهدئة، حفاظاً على مشواره في تحويط وابتلاع القدس الشرقية لصالح "إسرائيل"، وبعدها سيندم الجميع يوم لا ينفع الندم.
وما يفعله نتنياهو يؤكد تصريحات كثيرة لسياسيين "إسرائيليين"، بأن السلطة الفلسطينية سوف لن تحصل على أكثر من حكم ذاتي، لأنه لا مجال للدولة الفلسطينية المستقلة التي يجري تقويض أساساتها منعاً لأي ولادة تحت أي ظرف كان.
كل ما يريده نتنياهو، هو فصل الضفة الغربية عن قطاع غزة وإضعاف هذين الكيانين والتعجيل بالخطط الاستيطانية، والحقيقة أن القوة تساعده والحلفاء كذلك، بالإضافة إلى عامل الوقت الذي يصب في مصلحته لا في مصلحة الفلسطينيين أو العرب.
لا يصب في مصلحة الفلسطينيين والعرب، لأنه بدون غطاء عربي فإن الطرف الفلسطيني لن يتمكن من فعل أي شيء، خصوصاً في معركته الدبلوماسية، ذلك أن الفيتو الأميركي حاضر دائماً للمصلحة "الإسرائيلية"، بينما لم يشرب الأوروبيون بعد حليب السباع، ويقرروا عدم اتفاقهم مع السيد الأميركي فيما يخص الصراع الفلسطيني- "الإسرائيلي".
ومع استنزاف المزيد من الوقت، والدخول في عام 2015 الذي يبدو أنه سوداوي قياساً بما يجري على الساحة العربية، وقياساً بأولوية الغرب في محاربة الإرهاب الدولي، نقول مع استنزاف الوقت تكون الضفة الغربية قد أصيبت بالحصبة الاستيطانية "الإسرائيلية".
إن المراهنة الفلسطينية على الأميركان هي خسارة ومضيعة كبيرة للوقت، ويبدو في هذا الوضع القائم أن عنوان صمود الفلسطينيين يتجسد فقط في مقاومتهم لكل أشكال العنصرية الصهيونية، ذلك أن لغة المصالحة الوطنية لا تزال بعيدة وغير مفهومة بين الفرقاء الفلسطينيين.
ما علينا، دعونا من القيادة والمهم هو الشعب الفلسطيني الذي يقاوم الاحتلال بالضفة الغربية وفي القلب منها القدس المحتلة، وهذا الفعل الفلسطيني ناجح بامتياز ويقلق العدو "الإسرائيلي" كثيراً، لأنه كلما يزيد فعل هذا الأخير بطشاً وسفكاً للدماء الفلسطينية، فإنه سينعكس عليه بمعادلة سلبية لن تحقق "الأمن لإسرائيل".
الخلاصة أن "إسرائيل" الماضية في الاستيطان والتهويد، لا تمشي بالتفاهم، وحين تعتبر نفسها صاحبة اليد الطولى في ممارسة كل ما يحلو لها ضد الفلسطينيين، فإن من حق الأخيرين أن يقاوموا بالباع والذراع حفاظاً على سلامتهم وسلامة أرضهم وعرضهم.