الأوضاع المتفجرة في القدس المحتلة، تتحول مع مرور المزيد من الأيام الطافحة بأشكال العدوان والإرهاب الإسرائيلي، إلى المعيار الحقيقي الملموس لاتجاهات وآفاق تطور العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، وما يتصل بها من تحركات سياسية ومواقف للدول الإقليمية والدولية بما في ذلك الدول الحليفة لـ"إسرائيل".
تتصرف "إسرائيل" إزاء القدس، باعتبارها وليس كأنها دولة فوق القوانين والقرارات الدولية، وبدون أي إشارة إلى أنها مستعدة لأن تأخذ في الاعتبار، حتى لمواقف الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي اللذين يدركان أن ما تقوم به حكومة نتنياهو، يصدر حكماً حازماً على كل محاولة، لدفع وإنجاح عملية "السلام".
حين يعلن نتنياهو، أن حكومته ستواصل ما تعتبره حقها في تكثيف الاستيطان في القدس كعاصمة أبدية موحدة لـ"إسرائيل"، فإنه بذلك يكون قد ألقى بكومة من القمامة في وجوه كل المتطلعين لتحقيق رؤية الدولتين ويكون قد وضع الفلسطينيين أمام خيار واحد، وهو التوجه نحو خوض الاشتباك والصراع الواسع.
لا تخشى حكومة نتنياهو، حكومة المستوطنين بامتياز، لا اعتراضات وإدانات المجتمع الدولي، ولا صرخات وشكاوى الفلسطينيين ومن خلفهم العرب والمسلمون، الذين لا يحركون ساكناً، سوى كثرة الدعاء، وإصدار بيانات وتصريحات الشجب والاستنكار.
الصحافة الإسرائيلية، طافحة منذ بعض الوقت، بالحديث عن انتفاضة تندلع في القدس، فيما لا يجد نتنياهو سبيلاً للتعامل مع هذه الانتفاضة، إلا بإرسال المزيد من قوات الجيش، و"الشاباك" والشرطة لقمع المنتفضين وإعلان المزيد من عطاءات البناء الاستيطاني.
يسقط الشهداء والجرحى، كل يوم في القدس، وكل يوم يجري اعتقال العشرات من الشبان، وفي كل يوم يقوم المتطرفون من المستوطنين باقتحام المسجد الأقصى، والاشتباك مع المرابطين فيه.
المخططات الإسرائيلية تتسارع في كل لحظة، من أجل فرض التقسيم الزماني والمكاني على المسجد الأقصى، والإطاحة بمسؤولية ودور الأوقاف الأردنية عن القيام بدورها، تعتقد حكومة نتنياهو أن موافقة الفلسطينيين على تأجيل طرح مشروع إنهاء الاحتلال على مجلس الأمن، إلى ما بعد الانتخابات النصفية للكونجرس، بناءً لضغط أو طلب أميركي تعتقد حكومة نتنياهو أن ذلك يعطيها فسحة من الوقت، لإنهاء قضية المسجد الأقصى، الذي ينبغي أن يتم إقصاؤه من دائرة البحث عن "السلام".
لا تهتم حكومة "إسرائيل" للحرج الشديد الذي يصيب حلفاءها الأميركيين والأوروبيين، فالأهم هو بقاء ورسوخ الائتلاف الحكومي، وبقاء نتنياهو على رأس السلطة، الأمر الذي يستدعي شراء رضا المستوطنين وممثليهم في الحكومة و"الكنيست".
ما تقوم به "إسرائيل" في القدس، وفي بقية أنحاء الضفة الغربية، لا يشير إلى تكتيك تفاوضي، يستهدف تقزيم الثمن الذي يمكن أن تدفعه مقابل تحقيق "السلام"، بقدر ما أنه يؤكد البعد الأيديولوجي السياسي، الذي يعكس الأطماع الإسرائيلية التوراتية، في مواصلة الاحتلال، وقهر الشعب الفلسطيني، وضم الضفة الغربية والقدس.
من أجل ذلك، تجند "إسرائيل" والحركة الصهيونية، وأصحاب رؤوس الأموال من يهود العالم، مليارات الدولارات، لتغيير طابع المدينة المقدسة، وتحويلها إلى مدينة يهودية خالصة بسكانها ومعالمها التاريخية، والحضارية، والدينية، تفعل ذلك "إسرائيل"، بينما لا يقدم العرب والمسلمون، للقدس وأهلها، ما يسعفهم على الصمود والبقاء ومواجهة المخططات الإسرائيلية، حتى لم يتبق للفلسطينيين المرابطين على الجمر، سوى صدورهم العارية.
ولكن قبل توجيه الملامة للعرب والمسلمين فإن فحص السياسة الفلسطينية الرسمية وغير الرسمية، يضعنا أمام حقائق سلبية، تشير إلى التردد، والانقسام، ومواصلة سياسة نزع الذرائع، أملاً في أن يؤدي ذلك إلى تحريك المواقف الأوروبية والأميركية، نحو اتخاذ مواقف وإجراءات أكثر صرامة ضد "إسرائيل"، وهو أمر مكلف جداً بالنسبة للفلسطينيين الذين تضيع حقوقهم في انتظار تغيرات، متأخرة قد لا يتاح لها فرصة إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
الحقوق الوطنية الفلسطينية تتساقط تحت وطأة الأطماع العدوانية الإسرائيلية بما في ذلك الدولة الفلسطينية المستقلة حتى مع تبادلية أراض، إن كان هذا هو الهدف والحق الوحيد الذي بقي أمام الفلسطينيين أن يسعوا لتحقيقه.
متأخراً، سعت القيادة الفلسطينية نحو مجلس الأمن الدولي، الذي دعا الرئيس محمود عباس لانعقاده في جلسة طارئة لمناقشة ملف الانتهاكات الإسرائيلية في القدس، والأجدى أن تباشر التوقيع على كافة المعاهدات الدولية بما في ذلك معاهدة روما، والانضمام إلى كل المؤسسات، لأن ما تقوم به "إسرائيل" يتجاوز حدود الشكوى، وبات يتطلب الدخول إلى مربع المحاكمة والعقاب.
"إسرائيل" لا تتراجع أو ترضخ إلا بالقوة، والقوة هنا هي قوة المقاومة الشعبية، وقوة المقاومة السياسية والدبلوماسية، في هذه المرحلة على الأقل، ولكن لاستخدام هذه القوة، على نحو مثمر، لا بد من إصلاح البيت الفلسطيني، الذي يعاني من دمار، لا يحتاج إلى مؤتمر دولي لإعادة إعماره.