البعض قد يرى في هذا العنوان نوعاً من الشطحان الفكري أو "الفنتازيا" الكلامية أو جهبذية لإنسان فقد السيطرة على نفسه، أو يعاني من تقدير عال للذات، فكيف لدولة عنصرية كـ"أسرائيل" أن تتحول إلى دولة دينية..؟ وما هي ممكنات هذا التحول إن وجدت؟
فالدول العربية التي تسيطر عليها الروحانية والدين والمتجذرة في وعي وثقافة مجتمعاتها، يمكن لها أن تتحول إلى دول دينية، أما "إسرائيل" كدولة علمانية فهذا قد يبدو ضرباً من الإستحالة والجنون؟ ولكن في نقاشنا وفي تحليلنا عبر هذه المقالة سنطرح الحثيثيات التي نستند عليها وإليها في هذه الإمكانية الواقعية بعد أن كانت إمكانية في المعنى التاريخي، فكما كان البعض يعتقد بأن إعادة النظر في منتجات سايكس- بيكو نوعاً من الهذيان الفكري والبعد عن المنطق والواقع، أو حديث لبعض الجماعات المثقفة الفاقدة لصلتها بالواقع، ولكن نحن نجد بأنه بعد استولاد "داعش" الموجدة أصلاً في بيئتنا، والإستولاد هنا بمعنى تخصيبها صناعياً ومدها بالسماد لكي تنمو سريعاً، ولكي تقوم بدورها في مشروع الفوضى الخلاقة الذي طبخ في مطابخ "السي اي ايه" وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ودوائر البحث والدراسات الأمريكية والأوروبية الغربية.
الآن بعد دوران هذا المشروع والمرسوم فيه بعناية فائقة دور لـ"داعش"، فإن نجاحه كما خططت له أمريكا وقوى الإستعمار الغربي يهدف لحل مشكلة "إسرائيل" ووضع حد ونهاية للقضية الفلسطينية، بدثر المشروع الوطني الفلسطيني، وقتل أية إمكانيات لنشوء حالة نهوض عربي من شأنها البناء عليها في معاودة قيام الوحدة والمشروع القومي العربي.
علينا أن ندرك بأن مصلحة "إسرائيل" في سايكس- بيكو الأولى وسايكس – بيكو الثانية، هي الأهم، ففي سايكس- بيكو الأولى جاءت على أنقاض انهيار الإمبراطورية العثمانية، وتمهد لخق "دولة إسرائيل"، وسايكس- بيكو الثانية تأتي على أنقاض إنهيار النظام الرسمي العربي، من أجل أن تتسيد "إسرائيل" المنطقة لعشرات السنوات القادمة وبدون خوضها للحروب.
مشروع الفوضى الخلاقة كما خطط له دنيس روس وبيكر وهاملتون وغيرهم من قادة السياسية الأمريكية، يقوم على أساس نقل الخلافات والصراعات المذهبية والطائفية في المجتمعات العربية من المستوى الرسمي إلى المستوى الشعبي، ونقلها إلى دائرة الفتن التي تمهد إلى إدخال شعوبها في حروب وصراعات مذهبية وطائفية، حروب تهدف إلى تجزئتها وتقسيمها وتذريرها وتفكيكها على أساس مذهبي، وإعادة التركيب على هذا الأساس والثروات وليس الجغرافيا، كما هو الحال في سايكس – بيكو الأول، وهذا يتطلب كذلك إزاحة وتغيير وجهة الوعي العربي، وكذلك وجهة الصراع، من صراع عربي- إسرائيلي إلى صراع عربي- فارسي، ودور "داعش" يكون هنا والمطلوب منها، أولاً تكريس المذهبية والطائفية عبر القتل والذبح وتدمير البنى المجتمعية وخلق ثارات مستديمة، وكذلك نشر حالة من الهلع والرعب والتخويف، وكذلك ترحيل إثنيات وطوائف بأكملها، كما حصل مع مسيحيي الرقة والموصل واليزيدية في العراق. وكذلك يجري إستباحة حدود الدول القائمة حالياً وإلغاء قدسيتها من خلال الإختراق وضم أراض أكثر من دولة لدولة "داعش"، وبما يعيد النظر في حدود الدول القائمة وفق سايكس- بيكو القديم، لتصبح قائمة على الأساس المذهبي وفق سايكس- بيكو الجديد.
وما يحتاجه هذا المشروع حتى يتكرّس على أرض الواقع، هو ضرب وتفتيت وإضعاف الدول المركزية العربية الثلاثة، التي يوجد فيها جيوش ومؤسسات ومجتمع مدني ومواطنه وتراث فكري وثقافي ومدني، وهي العراق وسوريا ومصر، العراق جرى تدميره وتفكيكه وتقسيمه وتذريره مذهبياً وعرقياً وطائفياً، وسوريا يجري العمل على تحويلها إلى دولة فاشلة، وكذلك جار العمل في مصر بنفس الإتجاة.
تكرّس المذهبية والطائفية والعرقية سيحول ذلك مع الزمن إلى مشروع قائم، يترجم ويجري القبول به دويلات مذهبية وطائفية وعرقية، الإعتراف بها جاهز، ديكورات تحكم بحماية أمريكية وأوروبية غربية و"إسرائيل"، ومرتبطة بأحلاف أمنية معها، فاقدة لقرارها وإرادتها وقرارها السياسي، ولا سيطرة لها على ثرواتها.
كما هو الحال الآن في مشيخات النفط والكاز في الخليج العربي ولبنان، وطبعاً هذه الدويلات ستكون محكومة ومسيطر عليها من قبل "إسرائيل"، فـ"إسرائيل" ستكون الأقوى والدولة المحورية في المنطقة، وستكون غير قادرة على الإعتراض أو رفض وجود "إسرائيل"، فهي طوعت على أساس أن تكون خادمة لـ"إسرائيل" ومحمية من قبلها، وأي طعن أو اعتراض يطعن بشرعيتها ووجودها هي.
ولكن ثمة سؤال سيطرح، كيف سيحدث و"إسرائيل" تنتمي إلى الغرب وحضارته، ولا تنتمي إلى الشرق الوسط وعاداته وتقاليده؟ وهل ممكن أن تندمج فيه وتكون جزء منه؟!
الإجابة تقول بأن "إسرائيل"، في النصف الثاني من التسعينات، أصبحت تتجه نحو العنصرية والتطرف بشكل غير مسبوق، ودخلت في إطار الصراع المجتمعي، بين القوى الدينية والعلمانية، صراع يضبط إيقاعاته فقط الصراع الخارجي، وعندما ينتهي هذا الصراع، ويسقط المشروع القومي العربي، وينتهي خطر القضية الفلسطينية، فإن الحالة الراهنة التي تتوحد فيها "إسرائيل" على أساس الصهيونية وليس اليهودية، ستنتهي وسيتجه المجتمع الإسرائيلي وينسحب نحو صراعات داخلية، ستأخذ طابع العنف.
وفي اللحظة التي تنسحب فيها الصهيونية لصالح اليهودية فإن المجتمع الإسرائيلي قد يدخل في دوامة من العنف الداخلي والإرهاب اللاهوتي المتعصب بشكل مماثل لما نشهده الآن في العالم الإسلامي واسترجاعاً لما شهده العالم المسيحي في العصور الوسطى.
وبلغة الكاتب الدكتور لبيب القمحاوي "الفرق الأساسي بين إسرائيل وباقي دول الإقليم هو أن التغيير المتعلق بإسرائيل لن يأتي من خارجها وإنما من داخلها، ولكن بعد أن تستقر الأمور في المنطقة ويتم تقسيمها ويفقد العرب هويتهم وأنفسهم وأي قدرة على التصدي لإسرائيل بل وأي رغـبة في فعل ذلك. وعندها، فإن إسرائيل اليهودية وليس الصهيونية سوف تقاتل نفسها من أجل حسم خلافها الداخلي المتزايد بين هويتها الدينية المتطرفة أو العلمانية. وقد يؤدي فقدان الخطر العربي عليها إلى تعجيل حتمية ذلك الصدام وتقوية المعسكر العلماني على حساب المعسكر الديني اليهودي المتطرف".