أيام قليلة مرت على بداية انطلاقة الجولة الثانية من جنيف 2 دون أن يصل طرفا النزاع السوري المشاركان في مفاوضات هذا المؤتمر الدولي،
إلى توافقات من شأنها التمهيد لإنهاء النزاع الداخلي الذي دام أكثر من ثلاث سنوات وخلف وراءه ما يزيد على 130 ألف قتيل وملايين اللاجئين والمشردين.
قبل انطلاق الجولة الثانية من المفاوضات بين طرفي النزاع، كان رئيس الائتلاف الوطني السوري المعارض أحمد الجربا في زيارة مهمة لروسيا، من أجل إقناعها بضرورة الموافقة على تشكيل هيئة حكم انتقالية، وبالتالي الضغط على النظام السوري حتى يقبل هذه الصيغة.
زيارة الجربا هذه إلى روسيا، استهدفت قضية بالغة الأهمية، وهي أن الائتلاف الوطني المعارض يعي مدى تأثير روسيا القوي على سورية، وأن هذه الدولة قادرة على فرض أي قرار على دمشق، الأمر الذي يعتقد الجربا أنه يمكن له تحقيق اختراقات لصالح المعارضة من شأنها أن تقوي بالذات الائتلاف الوطني المعارض.
المعنى أن الجربا الذي أخذ وقتاً طويلاً جداً لتأمين مشاركته في جنيف 2، رغم اعتراضات قوية من معسكر المعارضة بكل أطيافها، وخصوصاً المتطرفة منها والمسلحة، وأيضاً من داخل ائتلافه المعارض، نقول إن الجربا تمكن من جعل الائتلاف واجهة المعارضة الرئيسية للخوض في المفاوضات وفي مستقبل سورية.
إن كل ما يريده الجربا هو الوصول إلى نتيجة تفاوضية لصالح الائتلاف، يمكنها أن تحجز مستقبلاً للرجل وأنصاره من المعارضة، والأهم أن ذلك قد يعني بالضرورة تجاوز أصوات المعارضة الإسلامية، التي ارتفع الشك حولها خصوصاً من قبل الغرب.
ما كان يريده الجربا وما يزال مصراً عليه، هو ضرورة تشكيل هيئة حكم انتقالية تسبق أي قرار آخر، والأهم أنها تسبق وقف العنف، ولعل هذا أدى إلى فشل الجولة الأولى من المؤتمر الدولي، بسبب تعلق كل طرف بمواقفه المتناقضة مع الطرف الآخر.
في الجولة الثانية من المفاوضات، قدمت المعارضة وثيقة قريبة من بيان جنيف 1، من حيث تشكيل هيئة حكم انتقالية تتمتع بصلاحيات قوية وتتجنب الحديث عن الرئيس الأسد، مضافاً إليها طرد المقاتلين الأجانب من سورية ونزع سلاح الجماعات المسلحة وتسريحهم أو دمجهم في مؤسسات المرحلة الانتقالية.
هذه الوثيقة التي عرضتها المعارضة، قدمت موضوع هيئة الحكم الانتقالية على وقف العنف، وعلى أن تتشكل في الأول، وبالتالي تمهد لوقف كامل لإطلاق النار، وعلى أن تشارك كل الجماعات العرقية في عملية انتقالية تهدف إلى ضمان الأمن والاستقرار.
الوثيقة لم تتعرض إلى الرئيس الأسد، واعتبرت أن هيئة الحكم الانتقالية هي الآمر والناهي وهي صاحبة الشرعية العليا والوحيدة، وباعتبارها تمثل سيادة الدولة السورية على كافة المستويات، الداخلية والخارجية الدولية.
يبدو أن المعارضة التي صاغت هذه الوثيقة قد وقعت في نفس فخ جنيف 1، لأن الأخير تطرق إلى مرحلة انتقالية بدون أن يحدد الموقف من الرئيس بشار الأسد، وكذا فعلت الوثيقة التي استثنت الحديث عن الرجل، الأمر الذي سيفتح الباب أم تفسيرات متنوعة ومختلفة قد تقلب طاولة المفاوضات.
لعل الوثيقة المطروحة حالياً لن تقدم إضافةً جديدةً إلى المفاوضات، باستثناء أنها ستعمق الانقسام بين طرفي النزاع في العملية السياسية، ذلك أن المعارضة التي تجنبت الحديث عن الرئيس بشار، تعتبره جزءاً من المشكلة وأن رحيله هو أساس الحل.
ربما سعت المعارضة إلى عرض هذه الوثيقة لمأزقة وفد النظام في حال رفضها، وبالتالي وضعه في خانة الاتهام والمسؤول عن فشل المفاوضات، والعودة مرةً أخرى إلى المجتمع الدولي ومجلس الأمن لمطالبته التخلص من نظام الأسد وحماية الشعب السوري.
وفد النظام لم يرفض وثيقة المعارضة، لكنه يرفض موضوع تشكيل حكومة انتقالية، لأنه متمسك بموقفه إزاء ضرورة وقف العنف أولاً ومن ثم مناقشة كافة البنود بنداً بنداً، وقد صرح نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد بذلك، وعلى الأرجح أن تلاقي الجولة الثانية من المفاوضات المصير الذي لاقته نظيرتها الأولى.
هذا قد يبدو واضحاً الآن بالنظر إلى عدة اعتبارات، أولها أن النظام السوري مدعوم بقوة من روسيا، ويشعر أنه مع الوقت قادر على فرض شروطه السياسية انطلاقاً من الميدان الذي يحقق فيه نتائج متقدمة على حساب المعارضة المشتتة.
ثم إن النظام السوري يعتقد أن هذه فرصته الذهبية لمشاهدة معارضة مشتتة وتتقاتل فيما بينها، وهو يسعى لاستثمار هذه الفرصة من أجل التقدم على الأرض وانتزاع مناطق خاضعة للاشتباك الثنائي بينه وبين المعارضة، وترك المناطق الأخرى التي يجري فيها تنازع بين المعارضة نفسها.
أيضاً يمكن القول إن تشتت المعارضة يعني بالضرورة ضعف الائتلاف الوطني السوري المعارض، ويبدو أن هناك مساعي غربية لتمكين هذا الائتلاف ومده بمختلف الوسائل، حتى يكون نداً على الأقل في مقابل النظام السوري، على الجانبين السياسي والعسكري.
إن الائتلاف السوري المعارض بات يدرك أن تحقيق إنجازات سياسية ملموسة، سيعني الانقلاب على المعارضة المتطرفة في الداخل والمساعدة في تحصين المعارضة الأصلية وتمكينها في مواجهة النظام، ولعل الوثيقة التي تحدثت عن طرد المقاتلين الأجانب، تشكل مؤشراً على نية الائتلاف تشكيل معارضة موحدة وفاعلة على كافة المستويات.
ويمكن الاستعانة لتأكيد هذا الموقف، برغبة مجموعة أصدقاء سورية للاجتماع بعيد الجولة الثانية من جنيف 2، وبحث السبل الكفيلة بدعم الائتلاف ومده بدعم لا يقل عن ذلك الذي تقدمه روسيا إلى سورية، الأمر الذي يعني أن هناك خطة لإعادة بناء المعارضة من جديد، والمقصد من ذلك إضعاف المعارضة المتطرفة عبر وقف كل أنواع الدعم لها، وفي المقابل إقواء المعارضة الأساسية المتمثلة في الائتلاف الوطني والجيش الحر وباقي أنواع المعارضة ذات التوجهات الوطنية والفكرية غير الملتبسة.
يبقى القول إن الجولة الثانية من مفاوضات جنيف 2 هي استكمال لجولات كثيرة، تستمد قوتها وعصبها من الميدان الذي يشهد الآن شراسة في النزاع بين النظام والمعارضة، وضحايا يتجاوزون الـ200 يومياً، بما يعني أن الطرفين لا يزالان يعولان على الحسم العسكري لجهة الحسم السياسي.
ولعلنا سنشهد في المستقبل مساعيَ لترتيب صفوف المعارضة نحو تأهيلها ودمجها في العملية السياسية التي يقودها الائتلاف، أملاً في خلق قوة موازية من حيث الحجم لقوة النظام الذي يبدو أنه يتمتع بكل أنواع الإسناد من الحليفتين الاستراتيجيتين روسيا وإيران.