القطار الاميركي، الذي يتحرك معظم الوقت، لانقاذ المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية لا يزال يصدر الكثير من الضجيج والكثير من الغبار، والكثير من الغموض، الذي تزيده التصريحات والتسريبات المزيد من الغموض غير البناء.
قد يكون لتوخي السرية بعض المنافع لكن المساوئ الناجمة عنها اكبر بكثير من فوائدها، خصوصاً وان الأمر يتصل بمصير شعب، ومآلات قضية مركزية بحجم القضية الفلسطينية، وبحجم صراع دموي مديد، تدفع اطرافه اثماناً باهظة لتأكيد وفرض ادعاءاتها على اجندات التاريخ.
التسريبات التي صدرت مؤخراً عن حديث الموفد الاميركي مارتن انديك لبعض زعماء اللوبي اليهودي الاميركي، يوم الخميس الماضي، اثارت لدى بعض الاطراف عاصفة من الردود، ولبعضها الآخر، خصوصاً طرفي المفاوضات، قدراً من الصمت غير المفهوم.
انديك تحدث عن جهد اميركي متواصل وحثيث لاحداث اختراق تاريخي يؤدي مع نهاية هذا العام، الى اتفاق ينهي الصراع، وتحدث عن بعض ملامح اتفاق انتقالي تحت عنوان اتفاقية اطار، من شأنها ان تؤمن، استمرار المفاوضات حتى نهاية العام الحالي، بمقارنة ما ورد على لسان انديك، مع ما يصدر من مواقف عن الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي، يمكن الاعتقاد، بأن ما تحدث به ينطوي على شيء من الصدقية، او انه على الاقل لا يخرج عن منطق التفكير الاميركي الاسرائيلي، وهو منطق حتى الآن، مرفوض فلسطينياً ولا يلبي الحد الادنى من الحقوق الفلسطينية، او ما يعرف بالثوابت.
الاتحاد الاوروبي الذي سبق له ان اتخذ خطوة مهمة ازاء كيفية تعامله مع البضائع التي تصله من المستوطنات، وهي خطوة تفهم على انها شكل من اشكال التحذير والضغط على اسرائيل، الاتحاد الاوروبي يحاول الضغط في الاتجاه الآخر، وكأن الفلسطينيين يشكلون عقبة امام المفاوضات.
الاتحاد الاوروبي لوح بوقف الدعم المالي الذي يقدمه للسلطة الفلسطينية بدعوى ان هذه المساعدات ليست انسانية، وانما تنطوي على اهداف سياسية، تتصل بالتسوية، وبالدولة الفلسطينية، فإن لم يحصل هذا، فإن اوروبا ستفقد الواقعية لتقديم هذه المساعدات.
واضاف الاوروبيون مؤخراً، انهم لن يدعموا التوجه الفلسطيني للأمم المتحدة، في حال فشل المفاوضات، اذا قارنا نوع ومستوى الضغط الذي يمارسه الاتحاد الاوروبي على الفلسطينيين، بالذي يمارسه على الاسرائيليين فإننا سنقف على حقيقة مواقف وسياسات لا تختلف كثيراً عن مواقف وسياسات الولايات المتحدة، التي لا تخجل من تأكيد انحيازها لاسرائيل.
مثل هذه المواقف والسياسات المخالفة للشرعية الدولية، والمحكومة لمرجعية موازين القوى، وانانية المصالح، تشير الى ان هؤلاء جميعاً، لا يبحثون عن حقوق للشعب الفلسطيني، بقدر ما انهم يبحثون عن انهاء الصراع، وادامة وتقوية وجود دور اسرائيل الاستعماري في المنطقة.
الامر ليس غريباً البتة، فهذه الدولة، شاركت وساندت، في تحقيق المشروع الصهيوني على ارض فلسطين، لدوافع استراتيجية تتصل بنظرتهم ازاء مستقبل الامة العربية، والمنطقة، وبما يكفل استمرار وتوسيع مصالحها الحيوية في هذه المنطقة الاستراتيجية.
اذا كان مثل هذا الامر متوقعاً، ومفهوماً، فإن الغريب وغير المفهوم مواقف الدول العربية، التي تملك القدرة والامكانية لحماية الحقوق الفلسطينية، والتي باتت تدرك جيداً مع اندلاع هبات التغيير في العديد من الدول العربية، ان المراكز الاستعمارية وعلى رأسها الولايات المتحدة تستهدفها هي الاخرى.
لا مخرج لهذه الدول، التي تراهن على ان التودد لاميركا، ومسايرتها، يمكن ان يحميها من رياح التغيير، لا مخرج لها سوى المواجهة المبكرة، والمواجهة الاستباقية والدفاعية، وبأن فلسطين هي خط الدفاع الاول.
والغريب وغير المفهوم ايضاً، تخلف روسيا، الضلع الرابع في الرباعية الدولية، والدولة التي اخذت تستعيد انفاسها، وتتحرك نحو مصالحها في المنطقة، نقول تخلف روسيا عن التدخل، وتنشيط دورها في العملية السياسية.
هل تنتظر روسيا، دعوة، او عزومة، لن تأتي لا من اسرائيل ولا من اميركا ولا من اوروبا، وربما هي ليست كافية لو جاءت من الفلسطينيين؟ هل تنتظر التحرك نحو مصالحها في المنطقة، بعد ان تكون الولايات المتحدة قد اقفلت عليها بالضبة والمفتاح؟.
وتواصلاً مع ظاهرة الغرابة، نتساءل عن طبيعة ومدى فاعلية التحرك من قبل الفصائل والحركات المعارضة للمفاوضات، والتي لا تنقصها الحكمة لمعرفة المخاطر التي تنطوي عليها تسوية من النوع الذي تبحث عنه وتسعى اليه الولايات المتحدة؟
في آخر تصريحاته، يشير الرجل الثاني في حركة حماس، الشيخ اسماعيل هنية، الى ان الحصار المشدد على قطاع غزة، يستهدف ارغام حركته، وحركات المقاومة، على التنازل عن مواقفها تجاه المفاوضات والتسوية، وهذا صحيح.
غير ان الغريب، هو ان حماس وحركات المقاومة، وفصائل منظمة التحرير وبضمنها اليسار الفلسطيني، كلها تكتفي بالتعبير عن مخاوفها ورفضها من خلال التصريحات وعبر وسائل الاعلام.
يمكن وينبغي للقوى الفلسطينية المعارضة ان تفعل الكثير، خصوصاً فيما يتعلق بالمقاومة الشعبية، والسياسية، وفي اطار التعبئة والتحشيد، لإظهار حقيقة ان المفاوضات، والتسوية المقترحة، سواء كانت سرية ام علنية، لن تكون بما هي عليه، مقبولة من غالبية الشعب الفلسطيني.
تخطئ اميركا، وتخطئ اوروبا، ان هي اعتقدت، بأن تسوية تفرضها على الفلسطينيين لا تلبي الحد الادنى من الحقوق الفلسطينية، يمكن ان تؤدي الى انهاء الصراع، واقفال الملف، وسيكتشف كل هؤلاء ان ما يفعلونه لا يعدو كونه عاملاً محفزاً لتأجيج الصراع وليس الى تبريره.
من الصعب مقارنة ما يجري العمل لتحقيقه باتفاقية اوسلو، التي نجحت كل الاطراف في فرضها على الشعب الفلسطيني، ولكن دون أن تنجح في وأد مقاومة الشعب الفلسطيني، فالأمر هنا يتصل بالمصير وعند بوابات تحديد المصير، يصبح الأمر اما ان نكون او لا نكون.
سيعود كيري الى المنطقة، بعد انتهاء جنيف (2) الخاص بسورية، وربما تكون زيارته القادمة، حاسمة الى حد كبير، وبالتالي فإن الشعب الفلسطيني وفصائله معني بأن يبلغ رسالة استباقية قوية لا يمكن اساءة مضامينها، فإما الحقوق وإما هو الصراع المفتوح.