I ـ فلسطيني دائماً لطلال سلمان علامة تدل عليه. فلسطيني دائماً. يسميها باسمها، ولا يقبل تبديلا. فلسطينه بتمام حروفها وأرضها ومائها وهوائها وضـفافها وبساتينها وبياراتها وأشعارها وقصائدها وجدائل الشجر التي لا تنحسر عن لغته. فلسطينه لم تتغير، هي هي، حية ترزق ولو تنزف. ومنذورة للحياة، بكل آلام البقاء.
ولفلسطـين عنده إقامـة. «حنـظلة» موجود هنا. قاعة ناجي العلي ملتقى الفكر والأدب والثقافة والمهنة. قد يسايرك في أمور شتى، أما فلسطين ففي مقام الحرمة ولا تمس. جاء فلسطين من عروبة تشده إليها عروة وثقى من العقل والروح والانتماء. في عروبته، فلسطين أولاً، وفي لبنانيته، ثنائية المعنى: لا معنى حقيقياً للبنان، من دون فلسطين فيه ومعها.
تعيش فلسطين في حروفه. لا تردعه هزيمة، ولا تهزمه خيانة. «سفيره»، أي «سفيرنا»، لم ترفع الأعلام البيضاء إبان الاجتياح الإسرائيلي. إطلالة «السفير» في عددها الأول، حملت مقابلة فريدة مع قائد الثورة الفلسطينية «أبو عمار». مع الانتفاضة الأولى رفع شعار: «لست وحدك». كانت «السفير» مقلعاً لحجارة من نوع آخر. مع الانتفاضة الثانية، رفع شعار «فلسطين، لستِ وحدك». فهـو، ومن معه، معها.
كان العالم ينسى فلسطين. كانت الأمة تنصرف عن فلسطين. كانت شعوب تقتسم الآية وتنأى عن القضية. كان يقال، وماذا بقي لكم في فلسـطين؟ وكان يقال، من بقي منكم لفلسـطين. اتركوها لأوسلو، والرباعية، وخريطة الطريق، و... لكنه اعتصم بها. فأصدر ملحقاً خاصاً عن فلسطين، مشدداً على من يتناول الكتابة فيها، على أنها كل فلسطين، من البحر إلى النهر. فلسطين، يضاف إليها ولا يحذف منها.
على اسم فلسطين سمعنا يوم الاثنين الفائت نشرة أخبار موحدة على شاشات الأقنية التلفزيونية اللبنانية. كثيرون أكبروا، قليلون خسئوا. فكيف جرى ما جرى. وكيف تحلّق إعلام مختلف، بل متنابذ، حول فلسطين، في مشهد مفاجئ ولائق ومؤثر؟
II ـ حكاية النشرة الموحدة
مناسبة تُروى: دخلنا كالعادة، اجتماع التحرير المسائي في «السفير». تداولنا، اقترحنا، وقبل أن ينفضّ الاجتماع، سأل رئيس التحرير: ماذا بعد؟ هذا ليس كافياً. حواضر البيت اللبناني غير كافية. ماذا يمكن أن نفعل؟ ومن عادة طلال أن يطلب ويطالب.. هكذا هو، يبحث عما نقص، ففي مكان ما، لا بد أن يكون هناك شيء جدير «بالأولى». الزميل حسين أيوب قفز بالجواب إلى مكان آخر: «ليس أمامك إلا التيلتيون». حصلت تزكية للفكرة، وبثوان، أصبح الاقتراح قيد الإعداد. تيلتيون من أجل غزة ـ فلسطين.
عقدت جلسة جانبية لوضع مسوّدة المشروع: تحديد التلفزيون المتبرع، الإذاعة المتحمسة، المواقع المؤهلة، أسماء الكتاب والمفكرين والمبدعين والشعراء، من صنعاء إلى المغرب، وتركت مهمة تحديد الفنانين لأصحاب الاختصاص.
ليلاً، تم الاتصال بـ«الجديد»، وبعد أقل من 24 ساعة اكتمل نصاب التيلتيون. بسرعة سقط اقتراح «التيلتيون». كنت متمسكاً به. قدمت الزميلة كرمى خياط اقتراح النشرة الإخبارية، ثم تبلورت «النشرة الموحدة». وبعد تقليب الاقتراح تقرر، وفوراً بدأ الأستاذ طلال اتصالاته بمسؤولي المحطات كلها LBC، المنار، OTV، NBN، المستقبل، تلفزيون لبنان، MTV. حدّثهم بضع كلمات عن التضامن مع فلسطين. الجواب كان: «حاضرون». وفي تمام الحادية عشرة من اليوم التالي اكتظت قاعة إبراهيم عامر في «السفير» بالملبّين. ربما لأول مرة يجتمعون معاً. كانوا طبيعيين. ودودين، لائقين. كان مشهداً مفرحاً. إلا أن الأجمل، حصل عندما قدم رئيس تحرير «السفير» للاجتماع بكلمة عن ضرورة التضامن معاً مع فلسطين.
ما كنت أتوقع أن ينتقل المدعوون جميعهم إلى التنفيذ فوراً. لم يناقش أحد في العنوان والمبدأ والتضامن وفلسطين. كأن ذلك من البديهيات، فيما قبل الاجتماع كنا حذرين، لأن ما بين الشاشات، يرعى الغزال.
توحد الإعلام المختلف على فلسطين، وكل على طريقته. وهذه علامة فارقة ومدهشة حقاً. فهل هناك ما يتفق عليه أيضاً لبنانياً؟ القضايا كثيرة، والمطلوب، رؤية واحدة وقرار واحد... لعب الإعلام دوراً سلبياً جداً في انخراطه بالاصطفافات. ليس مطلوباً أن يلغى الاختلاف والتباين والالتزام. المطلوب أن يكون الاختلاف، تحت سقف يتحد في ظله الإعلام. هذه مسؤولية أهل الإعلام، أن يصوغوا ميثاقاً مهنياً وطنياً، لا يؤذي الحرية، ولا تؤذينا بدورها. مهمة صعبة، ولكنها ليست مستحيلة.
يستحق هؤلاء جميعاً الشكر. لطلال المبادرة، وللشاشات التلبية والتوحد، ولو لنصف ساعة، كانت أفضل بكثير من سنوات القطيعة.
في هذه الأثناء، شعرت أنني لست وحدي وكتبت ما يلي:
III ـ قانا وغزة
كنت تظن نفسك وحيداً، وأنك تسير وحدك والطريق مقفلة من العابرين، وأنك غريب في مدى مأهول بالغائبين عن... فلسطين.
كنت تظن أنك وحدك على عتبة غزة، كما كنت يوم إعدام قانا.
وعبثاًً حاولت أن تجد أحداً. وحدك تقرأ في قانا، ويفهم أنك تقصد غزة. تحملُ ديوانا وتقرأ، بدمع عينيك: «في قانا (في غزة) كان القاتل يرتدي ملابس رب الجنود!
في قانا (في غزه) كانوا أطفالاً عندما ذهبوا للنوم!
في قانا (في غزه) ثمة امرأة لم تعد قادرة على البكاء!
في قانا (في غزه) لم تنادِ الشبابيك بائع الحليب هذا الصباح!
في قانا (في غزه) لن تزدحم المدرسة بالأطفال هذا الصباح!
في قانا (في غزه) لا أثر لرائحة الخبز والقهوة هذا الصباح!
في قانا، كما في بيروت، في غزة، كما في بغداد كان القاتل واحداً «Made In USA»(1)
لكنك لست وحدك، غيرك قد يسبقك إلى غزة، ولا يقول عن وجهته، لأنه هناك منذ زمن الانتماء. لبنانيتك التي تعمدت في قانا مرتين، طريقك إلى غزة. فخمر قانا من دم.
IV ـ سبقوك إلى غزة
كنت تظن نفسك وحيداً، معلقاً في العجز ومهووساً بالفعل، تفتش عن قبضة إلى جانب قبضتك. آلمتك غزة، لأنك لا تعرف ماذا أنت فاعل، ولأنك تبرئ انتماءك بأحزانك النبيلة، على ضحايا غزة. ولكنك لم تفعل شيئاً، فأنت مثل هذا العالم العربي، لا حول ولا قوة ولا شيء أبداً. عدم موجود. عدم يتقدم إلى عدم.
كنت تظن نفسك وحيداً، وأن ما تشاهده على الشاشة يحرّضك على غير الفجيعة، ويحثك على غير القلم والكتابة. كأن تكون هناك، لتشعر أنك موجود بالفعل، وأن لوجودك معنى، وأن لحياتك معنى، وأن لموتك أبلغ المعاني.
كنت أنانياً، تنزه نفسك عن التقصير، تدَّعي أنك وحدك فلسطيني جداً، في هذا الركام الديني، المذهبي، الطوائفي، النفطي، التكفيري، وأن لا أحد سواك، يشبهك. ولكنك لست وحدك. وهذا الذي تسميه عدماً ليس عدماً، هو ضفاف تملأها فلسطين إذ تعلن بدمها عن دينها ووجودها وبقائها. كان عليك أن تقرأ بإيمانك.
فمن أنت لتدعي أنك الفلسطيني؟ غيرك، في كثرتهم القليلة، تحركوا، انوجدوا، تحدوا، رفعوا الصوت، رفعوا الصلوات، فيما آخرون كانوا قد سبقوك إلى هنالك، رأوا البحر واسعاً فتسللوا منه وعبره وخاضوا المعركة، رأوا الشمس واسعة، فاعتصموا بالليل، وفازوا برؤية العدو، فانهالوا عليه. رأوا الناس، فتدفقوا معهم، إلى قطاف الشهادة.
فمن أنت؟ غيرك أكثر منك هدى والتزاماً وتجرؤاً ومناورة.
فاعترف بأنك تجهل أن تسمي الأشياء بأسمائها. فعدد الفلسطينيين بالتبني في العالم، لا تتسع لهم خريطة فلسطين. فإياك أن تسأل: «وماذا فعلوا؟» مشهد غزة اليوم، على خلاف ما كانت عليه. إنها أقوى وأكثر مراساً وأشد وطأة وأثقل سلاحاً وأمتن موقفاً وأصلب عدداً وأشرس مثالاً وأذكى إبداعاً... والثمن باهظ. تقتل إسرائيل منهم أعداداً كل يوم، لكن غزة ليست مقبرة.
V ـ لا أرض لك.. غير أرضك
من حقك أن تشعر بالغربة. لست محظوظاً، لأنك عشت في زمن الأحلام، وبلغت زمن الركام... من حقك أن تبصق على واقع، أفقدك الصواب وأعادك إلى عتمة الجاهلية. من حقك أن تقول: أنا شاهد على عصر اغتيال الأشياء الجميلة: الحرية، الوطن، الإنسان، الكرامة، الإيمان، الشعر، المرأة، الجمال... من حقك أن تقول: أنا شاهد على عصر البشاعة، وما حولنا فتنة أشد من القتل، وقتل أشرس من الفتنة. لا أرض لك. لا وطن لك. لا قلب لك... أرض السواد، هي قارتك وملجأ روحك وقد تخثرت. من حقك أن تعتصم، بفلسطين، كي تبقى كائناً بشرياً، في غابة المذاهب المتوحشة والمفترسة.
من حقك أن تقول، فلسطين عاصمتك، وغزة ممر إسرائك إلى الروح. فلا قلب لأي عاصمة عربية ولا روح لأي كيان أو دولة... مَنْ؟ سمِّ عاصمة واحدة، تشعر فيها أنك أنتَ. هي عواصم يحس ساكنها، منذ ولادته، أنه في المنفى، مهان، مبتذل، مذعور، محبط، بلا أحلام وأشواق وزرقة آفاق. عواصم داكنة تشبه وجوه حكامها، ملوكاًً وأمراء ورؤساء وقادة عسكر. بلاد طاردة لمن فيها، مفتوحة للآخرين، القادمين لاستثمار رؤوس الأموال لاستعباد الناس، وشراء البلاد، وتقييدها في الحسابات المصرفية الدولية. عواصمنا، عشوائيات عذاب، وقصور قح... (عذراً، لأننا بتنا في ما لا يطاق).
بلاد، بعد دهور القمع والتسلط، استخلف الدين فيها شياطينه، فجاؤوها من جوف تاريخ قذر دام، يكفّر ويقتل ويبيد ويضع «خلافة» على شكل قرصان. «فيا أمّةً...» من حقك أن تيأس إلى أن تلاقي وجوهاً تشبهك بجباه لم تنحن وعيون لم تصدأ فيها الروح، واشتد لمعانها كلما أشرقت دمعة وتسللت بخفر على خدين تعاهدا على استقبال القبلات، تطبعها فلسطين من خلف الجدار الفاصل والسياج الشائك ومن داخل الأنفاق.
لكنك، وسط هذا الركام، تجد احتلالاً فتنتفض، قتلاً وتدميراً وتهجيراً، فتعتصم بالأمل. الاحتلال يشتهي دمنا ودماء أطفالنا ونسائنا، فيما نحن نتعلم لغة المقاومة، لغة من كلام آخر، ليس فيها استسلام. لغة من أبجدية فلسطينية، لغةٌ، ولادة حياة وإيمان، بما بعد الحصار، وما بعد الاحتلال. فاقرأ باسم فلسطين...
(1) (من ديوان «اسميكِ حلماً وانتظر ليلى»، لماجد أبو غوش).