حظيت إسرائيل في تاريخها، بما يتناسب مع مشروعها الذي رسمت خطوطه وخطواته في مدينة «بازل» في سويسرا. من كان يصدق، في ذلك الزمن، أي في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، أن الحلم الخرافي لإيجاد وطن قومي لليهود في فلسطين،
كان معقولاً أو ممكن التحقق؟ طموح مجنون يكاد يتصل بالمستحيل. غير أن هذا الجنون، وجد طريقه إلى التنفيذ. إذ اقتضى توظيف قوى عالمية وقوى دول، وقوى محلية وذاتية، لإقامة دولة بعيدة، في قارة آسيا، وتحديداً في فلسطين، لإقامة دولة في «أرض بلا شعب»، لـ«شعب بلا أرض»، منتشر في الأقاصي البعيدة.
مشروع خرافي ولكنه تحقق. جمعت الأموال. وظفت العقول، أقيمت الاتصالات، أرسلت الوفود، استعملت الضغوط، انتهزت الفرص. جيء «بالعهد القديم» لاختيار أسطورة «أرض الميعاد» والصعود إلى أورشليم. عزفت الصهيونية على وتر الاضطهاد الذي لقيه اليهود في أوروبا، صنّعت دعاية متفوقة لاستنزاف «الهولوكوست»، وجعلها مرجعية روحية وثقافية وشرعية لمشروع «إنقاذ اليهود» من المحارق وأعاصير الاضطهاد. ثم... خاضت حروباً، استدرجت عروضاً لتصبح أقوى ثم أقوى ثم أقوى. وفر الغرب لها وعداً. ثم عهداً، ثم دعماً. لم يقصّر معها. اعتبرها حركة تحرير اليهود. ودعم إقامة دولة اليهود في فلسطين فيما كانت حصة العرب من الغرب، ضرب حركات التحرر، وإنزال عقوبة الاحتلال والانتداب. ثم ترهيب المقاومين بدعوة أنهم إرهاب.
نجحت الحركة الصهيونية في إقناع الغرب بأن إسرائيل حاجة له، وأقنعت اليهود بأن ظهرهم محمي في الغرب. ولولا حضانة الدول لما خرجت إسرائيل من رحم الحلم المجنون: تجميع اليهود في فلسطين.
منذ «الوعد» إلى تحقيق «العهد» لم تكن إسرائيل وحيدة. كانت على الدوام، محظية الدول الكبرى في الغرب والشرق. ولدت بقرار دولي، دعمت بدول استعمارية، تبنتها الولايات المتحدة الأميركية، القوة الأعظم في العالم، صارت شريكاً في تقرير السياسات الإقليمية، وتلزم أميركا بشروطها، إلا في ما ندر. شاركت في حرب السويس، وفازت باحتلال سيناء، فيما حليفاها فشلا في احتلال السويس. في الخامس من حزيران، صفق العالم لانتصار إسرائيل على ثلاثة جيوش بثلاثة أيام. وفيما كان العالم يرقص طرباً لانتصار إسرائيل، وإمكانية تحقيق يهوديتها، كان العالم يتفرج على المأساة الفلسطينية الثانية، ويمن عليه بقرارات دولية ظالمة، وغير قابلة للتنفيذ.
الحلم اللامعقول، في إقامة دولة يهودية، ليهود العالم كلهم، إن شاؤوا، صار حقيقة ساحقة. إسرائيل، الإبن الدولي الذي يسمح له ما يمنع على غيره، ويغفر له ويمجد، إذا ارتكب الفظائع، وهكذا، ارتكب العالم المتحضر، أبشع جريمة بعد استعماره للشعوب، عبر إقامة دولة إسرائيل، كاحتلال مؤبد، لاستيطان متوحش... بربرية العالم مسموحة بأيدٍ إسرائيلية.
تحنن العالم على الفلسطيني بالوفود المنحازة، والمشاريع المنتقصة، والمبادرات المساومة... لجان لا تحصى أرسلت، مبعوثون مهرة زاروا هذه البلاد، بهدف إيجاد حل لمعضلة الصراع. كان يؤخذ من العرب وفلسطين وتأخذ من الفلسطيني والعربي. تقدمت إسرائيل على العرب، تراجعت منظمة التحرير ثم «الفصائل»، فيما تقوقعت دول وتصالحت أنظمة مع العدو، ولم يخرج الفلسطيني من خيامه ومن قيده إلى فسحة حرة من وطنه. باستثناء انسحابها الذليل وهزيمتها في لبنان، لم تتراجع إسرائيل عن شبر أرض غير فلسطينية من دون أن تقبض ثمناً. قبضته من مصر ومن الأردن وفرضت على منظمة التحرير، أن تتخلى عن الميثاق الوطني الفلسطيني، وأن تنبذ العنف (أي الثورة) وألا تلجأ إلى «الإرهاب» (أي المقاومة) وأن تعترف بإسرائيل، مقابل بنود مطاطة وقع عليها في اتفاق أوسلو.
بعد الانتفاضة الأولى، كان الظن أن «أوسلو» هو الطريق إلى نصف الوطن. فالنصف الأول هو إسرائيل، أما النصف الثاني (وهو ليس نصف بل 22 في المئة من فلسطين) فهو «لا فلسطين». هي أراضٍ بلا كنية عربية، أما في العبرية، فهي يهودا والسامرة.
وبعد 21 عاماً من اتفاق أوسلو، لم يبق من مناطق فلسطينية تحت «إدارة الحكم الذاتي» سوى معازل محاصرة وجدار فاصل وأمن مفروض بالقوة، ومناطق محاطة بحواجز المستوطنات التي تنمو وتتكاثر بلا رادع، لا دولي ولا أميركي! ولا عربي (أين هم؟) ولا فلسطيني.
هذا المشروع المجنون لا يكتمل بإقامة دولة إسرائيل فقط، على جزء من حلمها. اكتماله يقضي بإعلان هويته اليهودية. فماذا بقي من فلسطين بعد كل هذا المسار؟
بقي أن يصرّ الفلسطيني على عدم الاعتراف بيهودية الدولة. أضعف الإيمان هذا، يحرم إسرائيل من أساس مشروعها. هي دولة احتلال لفلسطين، وستبقى كذلك، إلا إذا اعترف الفلسطيني بأنها دولة يهودية ولليهود. والاعتراف هذا، تصفية كاملة لقضية فلسطين. يخسر الفلسطيني حقه المهضوم الآن، وحقه الطبيعي المفترض، ويصير لاجئاً في العراء العربي والدولي. إذا اعترف الفلسطيني يخسر كل ما لم يخسره في الحروب والاجتياحات والمجازر والاستيطان، نهائياً.
القبول بفلسطين دولة لليهود، بلا حدود، يعني أن الفلسطيني موجود في أرض ليست له، ولم تكن له، ولن تعود إليه، فالأرض عندها يهودية والشعب يهودي، ويشرّع السؤال حينها عن سبب وجود الفلسطيني في إسرائيل.
القبول بيهودية الدولة، يعني أن يصبح الفلسطيني مهجراً أبدياً. لا وطن له، لا في الحلم ولا في الواقع. لا إمكانية البتة لفكرة وطن، إذا اعترف... سيخسر سرديته لتاريخه. لن يعود قادراً على رواية قصته المأساوية من وعد بلفور وما رافق مسيرته من قتل ومذابح وتهجير على مدى قرن من الزمن. الفلسطيني يصبح كائناً غير موجود، مع أنه موجود. فلسطينيته انتحال صفة: لا فلسطين ولا فلسطيني، بل دولة يهودية بسكان يهود.
فليذهب الفلسطينيون إلى الصحراء، واليهود لن يعودوا إلى ما وراء البحار. إسرائيل صنعت معجزة جمع اليهود في فلسطين، والعرب ابتكروا معجزة تبديد العرب طوائف ومذاهب وأقواماً وأنظمة وملوكاً وأمراء ورؤساء. فلسطين هي الربع الممتلئ باليهود، والعرب، ربع خالٍ من شعوبه.
ولا مرة كانت إسرائيل تعوزها القوة لاستكمال مشروعها. القوة ميسورة ومتوفرة وعلى «أيد من يغرف»، حتى أصبحت ثكنة عسكرية حتى الأسنان. لم يبخل عليها بأي سلاح. النووي موجود، من أيام الحنان الفرنسي. الكيميائي موجود، الطيران موجود، الصواريخ، القباب الحديدية. ولديها دوام عسكري في السياسة لا تحيد عنه... كل هذا لا ينفع. لا تعوزها القوة، ولا يعوزها غير اعتراف الفلسطيني بأن إسرائيل دولة يهودية. أي اعتراف الفلسطيني بأنه ليس فلسطينياً إلى الأبد.
لم ولن تقبل إسرائيل بمشروع الدولة الديموقراطية التي يعيش فيها اليهودي والفلسطيني معاً في دولة واحدة. فهذا انتحار للمشروع الصهيوني، وإضاعة للسبب الذي من أجله أنشئت إسرائيل.
لم ولن تقبل إسرائيل بدولة ثنائية القومية. «قوميتان لا تتعايشان» فوق أرض واحدة. هذه الثنائية تقسيم لجسد الدولة.
لم ولن تقبل بإقامة دولة فلسطينية، ولو منزوعة السلاح، ولو من دون سيادة. ستترك الفلسطيني على حاله، في حالة اهتراء، يعيش على أموال الإغاثة والمساعدات المشروطة المذلة. سيكون الفلسطيني، واقعاً، بلا حلم وبلا هوية وبلا غد.
إسرائيل لا تريد فلسطين ولا تريد الفلسطيني.
وهذا ما تسعى إليه من خلال شرطها الوجودي، الاعتراف بيهودية الدولة.
إن القبول بهذا، لا يعني استسلاماً، بل انتحاراً جماعياً.
يحصل هذا، بتأييد غربي ولا مبالاة عربية وعجز فلسطيني.
هذا زمن الكارثة... قبل زمن الامِّحاء.