Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

مفارقة بين جماعتين من أصل واحد... طلال عوكل

مفارقة بين جماعتين من أصل واحد...  طلال عوكل

  لا تزال تونس تمسك بشرف أولوية المبادرة نحو طريق التغيير، والتغيير الهادف، غير العشوائي، والذي يسعى فعلياً لإقامة نظام مدني ديمقراطي أو لنقل، النظام الذي ترضى عنه اغلبية الشعب، وعلى قاعدة الاعتراف الجمعي بأن الشعب هو مصدر السلطات.

 

ثورة الياسمين نهاية العام 2010، كانت البداية، لاندلاع عمليات التغيير في المنطقة العربية، واتسمت ببعدها الشعبي الديمقراطي وسلميتها، واستمرت منذ ذلك الحين، محافظة على تلك الأبعاد، بالرغم من نشوء فرقة شاذة، تنتمي إلى السلفية، والتي تنتهج سبيل العنف، المرفوض حتى من الفرق الإسلامية التونسية الأخرى، وبالطبع من بقية الفرق والأحزاب السياسية والاجتماعية.

ومنذ أن جرت الانتخابات وأظهرت نتائجها فوز حركة النهضة، وهي الفرع التونسي، لحركة الإخوان المسلمين العالمية، بادرت الحركة لتقديم نموذج مختلف، نموذج يأخذ بعين الاعتبار طبيعة التكوين الاجتماعي والسياسي.

وطبيعة الحركة الوطنية التونسية، التي تتمتع بتنوع كبير، ونموذج يقرأ على نحو معقول، طبيعة العصر، وما تنتجه من إمكانات إزاء تشكل النظام السياسي الجديد. دخلت حركة النهضة في تحالف مع حزبين علمانيين، وقبلت بتوزيع المسؤوليات الرئيسية في البلاد على نحو يمنح حزباً، موقع الرئاسة والآخر موقع رئاسة المجلس التأسيسي فيما احتفظت لنفسها بموقع رئيس الحكومة.

مضت التجربة على نحو لم يجد قبولاً لدى بقية الطيف السياسي والاجتماعي، وواجهت العديد من العقبات، التي أدت إلى تعثرها، فلقد ازداد وتصاعد العنف، وحصد اثنين من زعماء المعارضة، وتحملت الجماعات الإسلامية المسؤولية عن ذلك بما فيها الأحزاب التي ترفض العنف ومنها حركة النهضة، واستمر الاضطراب الاجتماعي والسياسي، وتجاوز المجلس التأسيسي الموعد المقرر لإعادة إجراء الانتخابات، فيما لم ينجح التحالف الثلاثي في تحسين الأوضاع الاقتصادية المتردية.

في ظل تلك الأوضاع، كانت حركة النهضة أمام احتمالين فإما مواصلة التمسك بنتائج الانتخابات، ومواصلة إدارة الحكم، وبالتالي مواجهة المعارضة المتزايدة، وفي الوقت ذاته التصدي لتصاعد العنف الذي تمارسه الجماعات السلفية، وإما أن تتراجع عن ذلك، وتعود للحوار، بهدف تحقيق توافق وطني.

كانت التجربة المصرية، قد قدمت ملامح أخرى، حيث اندلعت الثورة الشعبية في الثلاثين من حزيران العام الماضي، وتدخل الجيش المصري، وتم إقصاء الرئيس محمد مرسي، ودخلت البلاد في اضطراب شديد، ودخلت مرحلة من العنف المدمر.

ومن الواضح أن المرشد العام لحركة النهضة، راشد الغنوشي، قد قرأ جيداً التجربة المصرية، وهو في الأصل صاحب رؤية ومواقف قبل الثورة التونسية، أكثر عقلانية وأكثر انفتاحاً وأكثر مرونة، من أقرانه من زعماء حركات الإسلام السياسي العربي بما في ذلك حركة الإخوان في مصر.

وإذا كانت القراءة المجردة الأكاديمية، لا تصلح في حال الأحزاب والعمل السياسي، فإن الغنوشي، وبعد أشهر قليلة من التجاذبات السياسية والعناد، آثر أن يحيل نتائج القراءة للتجربة المصرية، إلى مبادرات وسلوك سياسي.

تنازل الغنوشي عن الحكومة، ووافق عبر حوار وتوافق وطني على تكليف شخصية مستقلة بتشكيل الحكومة، حظيت بموافقة المجلس التأسيسي ووافق هو وحركته على دستور لا ينص صراحة على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع وللسلطة، وتم الاتفاق بين الجميع على مواعيد إجراء الانتخابات، ودفع البلاد نحو دولة مدنية ديمقراطية.

لم تتنازل حركة النهضة عن أيديولوجيتها، ولا عن انتمائها الإسلامي ولا عن ارتباطها بحركة الإخوان المسلمين، ولكنه تصرف وفق مقتضيات العصر، ووفق حاجات البلاد، وتطلعات الأغلبية الشعبية، وقدم المصلحة الوطنية العليا عن المصالح الحزبية الضيقة التي كان يعني التمترس حولها، والتمسك بها، تمزيق البلاد، ودفعها نحو أتون صراع مرير، طويل، لا منتصر فيه إلاّ اعداء تونس. أقول ذلك، لا فقط لكي، نستظهر نموذجاً مختلفاً وحيداً للإسلام السياسي الذي يتسم بالتسامح والوطنية، وبالمرونة وبالفهم السليم لمتطلبات العصر، وللتعامل السياسي الناجح، الذي لا ترهقه الأيديولوجيا حتى الإطاحة بأصحابه، وإنما أيضاً، لكي نضع في مقابله، رؤية وسلوك جماعة الإخوان في مصر، ليس بهدف الشماتة، وبعيداً عن روح الانتقام، وإنما من أجل تدارك الأمور نحو تصحيح المسار.

فسواء في مصر، أو في فلسطين أو تونس، أو في أي قطر عربي، فإن الوطنية والقومية الحقة، تستدعي أن لا تهدر الطاقات عبثاً وبدون طائل، وتستدعي توفير كل جهد، للنهوض نحو بناء المستقبل الأفضل لشعوب أمتنا العربية، وادخاره لخوض معارك الأمة العربية التي تواجه تحديات تاريخية صعبة.

نعم فازت جماعة الإخوان في مصر، بأغلبية، وبرئاسة الجمهورية، ولكنها وقعت في جملة من الأخطاء بل الخطايا بقياسات العمل السياسي، أدت الى تحول الأغلبية الشعبية ضدها خلال عام واحد فقط من تسلمها مسؤولياتها الوطنية. لا نقصد العودة لتعداد تلك الأخطاء والخطايا، وأهمها، اتباع سياسة الإقصاء لكل الآخرين بما في ذلك الحليف الأساسي وهو حزب النور السلفي، ما أدى إلى ما أدى إليه، وهو إقصاؤهم عن الحكم. وإذا كان قد فات الأوان على إمكانية تصحيح ما كان يمكن تصحيحه قبل إقصاء الرئيس المعزول محمد مرسي، فلقد كان على الجماعة أن تتعامل بواقعية سياسية مع المتغيرات التي وقعت، لا أن تتحصن حول شعارات غير قابلة للتحقق من قبل إعادة الرئيس الشرعي إلى سدة الرئاسة مرة أخرى.

لجأت الجماعة إلى العنف، ومواصلة النزول إلى الشوارع، وسال الدم المصري الغالي، الأمر الذي شكّل عاملاً مهماً في اضطراب الأوضاع، وتراجع شعبيتهم، وصولاً إلى حل الجماعة، وإعلانها جماعة إرهابية، وكان من الممكن ويفترض أن تستمع إلى نصائح من طالبوا الجماعة بالتكيف، مع ضرورة التواجد في قلب الحركة السياسية والاجتماعية، وخوض التجربة الديمقراطية مرة أخرى. خطأ كبير، وتاريخي تدفع ثمنه الجماعة، ويدفع ثمنه المجتمع المصري، ونتألم لما يجري كعرب يتمنون أن تكون مصر بأفضل حال، لأن ذلك يعني أن الأمة ستكون بأفضل حال.