قبل يومين فقط مرّت الذكرى الأولى لاندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير في مصر الكبيرة، وكنا نتمنى أن تعم الاحتفالات كل أنحاء مصر والوطن العربي، غير أن الأمور سارت بعكس ما تشتهي المراكب.
لسنا بصدد الخوض نظرياً في المصطلحات، وما إذا كان ما جرى في مصر فصلاً بل الفصل الأهم في الربيع العربي، أو إن كان من الصحيح أن نطلق على ما جرى ويجري ربيعاً أم خريفاً، أو ما إذا كان ما وقع في مصر قبل ثلاث سنوات ثورة أم انتفاضة أم هبّة شعبية، أم انقلاباً، إذ ليس لنا إلا أن نتبنى الفهم المصري الذي اجتمع عليه كل المختلفين، والذين يعتبرون ما جرى ثورة شعبية.
كما أننا لسنا بصدد اجترار تقييماتنا السابقة، بشأن الاخطاء والخطايا، والسلبيات والإيجابيات التي رافقت الثورة منذ يومها الأول وحتى اندلاع الثورة الثانية في الثلاثين من حزيران العام الماضي، ولسنا في الوقت ذاته مضطرين للانضمام إلى جولة المطبلين والمزمرين لهذا الطرف أو ذاك.
ما يجري في مصر، هو إلى حد بعيد، العامل الأساس، الذي يقرر الوجهة العامة، التي تسير نحوها الأمة العربية، فصلاح الأمة وتطورها من صلاح مصر، أما بالنسبة لنا نحن الفلسطينيين فالأمر أبعد من ذلك كثيراً، فصداع مصر، يتسبب لنا بصداع نصفي مؤلم، والواقع القائم يشهد على ذلك، إن لم تكن كل وقائع التاريخ المعاصر والقديم.
لقد اختارت الولايات المتحدة، أن تبادر لتحريك عملية التسوية، في ظل ظروف مقروءة بالنسبة لهم، ومناسبة جداً لإسرائيل، ذلك أن ولاة الإدارة، الأميركية يعتقدون أن الأوضاع العربية وفي القلب منها أوضاع مصر، تجعل الفلسطينيين أيتاماً، مستعدين للخضوع، ولتقديم كل التنازلات، التي تتيح توقيع اتفاقية سلام، هي أقرب إلى الاستسلام، دون أن تتضرر الشروط والمطالب الإسرائيلية عالية السقوف.
لن تنجح الولايات المتحدة في تحقيق ذلك، فمهما بدا الوضع العربي صعباً، مشتتاً، منشغلاً في أوضاعه الداخلية، فإن الفلسطينيين لن يرفعوا الرايات البيضاء وسيترتب عليهم أن يدفعوا أثمان تمسكهم بحقوقهم، وأن يدفعوا أيضاً أثمان الوضع العربي الرديء.
ما يجري في مصر، يثير أسئلة كثيرة، وصعبة، أهمها، سؤالان: الأول، هو من أين جاء كل هذا العنف الذي لا يرحم، وهل كان وجود الجماعات التكفيرية في سيناء فجائياً، أم أنه موجود منذ فترة طويلة، ولماذا لم تظهر براعة هؤلاء واستعداداتهم للتضحية، ضد إسرائيل؟ أما السؤال الثاني فهو، هل تعتقد جماعة الإخوان المسلمين في مصر، ومن يشايعهم، بأن سبيل العنف الجاري، في مختلف أنحاء البلد، يمكن أن يعيدهم إلى السلطة، أو يقدم خدمة ما لبلد، يحتاج إلى الاستقرار والتكافل، من أجل النهوض بالأهداف التي قامت من أجلها الثورة؟
السؤال الأول يلقي بظلال كثيفة على كل حالة الجماعات التكفيرية والإرهابية بكل مسمياتها في المنطقة العربية، والتي يظهر العدد الأكبر من هذه المسميات في سورية، ومعظمها ينتمي إلى القاعدة، فكراً وسلوكاً، حتى لو لم تكن هناك صلات تنظيمية، أو لوجستية.
لماذا لا تفعل ولم تفعل كل هذه الجماعات، شيئاً ضد إسرائيل والولايات المتحدة، لكنها تبدع في استخدام العنف المقيت ضد الشعوب العربية بمسلميها ومسيحييها، وأقلياتها العرقية، والدينية.
إلى متى يستمر هذا النهج الذي يعطي الأولوية لقتال الأشقاء، والأهل، قبل قتال رؤوس الكفر، والمستعمرين، الذين يستبيحون المقدسات الإسلامية والمسيحية، في القدس ويستبيحون أرض فلسطين؟
إن ما نشاهده من عنف مفزع، ومقرف على الفضائيات، في العراق، وسورية وفي ليبيا، واليمن، على يد هذه الجماعات ينطوي على إساءات بالغة للإسلام والمسلمين، دون أن يحقق للمسلمين أية فائدة، فلا كل هذا العنف أدى إلى تحسين صورة الإسلام، على إقامة أنظمة إسلامية، ولا يخلف وراءه سوى الدمار والخراب.
الدمار والخراب، هو الهدف الذي لطالما سعت إسرائيل، والولايات المتحدة إلى تحقيقه خصوصاً في الدول العربية المركزية، والمحيطة بفلسطين، ومن أجل حماية أمن إسرائيل ومصالحها، وإطالة عمرها، ومن أجل استعباد شعوب الامة العربية والأمة الإسلامية، ونهب ثرواتها.
أما بصدد السؤال الثاني، فإنني أعتقد جازماً أن استمرار جماعة الإخوان المسلمين ومن يشايعهم في مصر، في استخدام العنف، وبث الفوضى، والفرقة في المجتمع المصري، لن يعيد لهم مجدهم الذي فقدوه خلال عام واحد من حكم الرئيس المعزول محمد مرسي، ولن يساهم في تحقيق الحد الأدنى من أهداف الثورة التي شاركوا فيها بقوة، سواء من موقع الشريك الأول أو من موقع الملتحق بالثورة.
لن نعود إلى فكرة انقلاب أم ثورة، فنحن أمام واقع محدد ومشخص وعلى السياسة الحكيمة أن تتبصر بواقعية، ما يجري، وأن تقود خطواتها وسياساتها ومواقفها بناء للمصالح الوطنية العليا، التي تضعها كل الأحزاب السياسية على رأس برامجها.
إن استمرار العنف ضد النظام والمجتمع لن يجلب للمصريين سوى توسيع الثغرات والشقوق التي يمكن أن تغري الآخرين بالتدخل، ولن يجلب للمصريين سوى المزيد من الخراب والدمار، وكراهية الطرف الذي يمارسه، وهو لن يؤدي بأي حال إلى وقف المسيرة التي اتخذتها خارطة الطريق، وبدأت بنجاح عملية التصويت على الدستور.
إن ما يجري في مصر، ينتمي إلى التغيرات التاريخية التي تستغرق وقتاً، وتستدعي دفع أثمان مقابل الأهداف الكبيرة والنبيلة التي يرفعها الثوار، ولذلك فإن العنف الذي يتجول في مصر، ليس سبباً للقلق، والاحباط، أو الخوف من الفشل.
بقيت ملاحظة أخيرة أو نصيحة، تتصل بالجدل الدائر في مصر، ويعبّر خلاله بعض السياسيين عن مخاوفهم من ترشح وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي للرئاسة، الملاحظة تقول إنه ليس بالضرورة أن يكون المستبد عسكرياً، وليس بالضرورة أن يكون العسكري مستبداً.
فالأصل هو النظام، ومنظومة القوانين التي تحدد طبيعته وآليات عمله، فإن كان النظام يلزم الحاكم، بالعودة إلى صناديق الاقتراع كل أربع أو خمس سنوات، فما الضير في أن يكون السيسي، أو غيره في موقع الرئاسة؟