الحملة العدوانية التي بدأتها الحكومة الإسرائيلية في الضفة الغربية قبل أكثر من ثلاثة أسابيع، بذريعة اختفاء ثلاثة مستوطنين في منطقة الخليل، بدأت ترتد نتائجها على من بادر إليها، معتقداً أنه من خلالها يمكن أن يحقق العديد من الأهداف السياسية واللوجستية.
تفاصيل المشهد تشير إلى أن الحكومة الإسرائيلية غرقت في أوحال لم تعد قادرة على الخروج منها دون أن تدفع أثماناً كبيرة.
انتهت قصة المستوطنين الثلاثة بفشل مروع للجيش، وللأجهزة الأمنية والاستخباراتية، وبالتالي للسياسة التي يديرها تحالف متطرف، ولكن ثمة من نجح في أن يبقي "إسرائيل" في دائرة الوحل دون أن تكون قادرة على تصعيد عدوانها، أو أن تضع حداً لهذه العدوانية.
بخلاف معظم المرات التي شنت فيها "إسرائيل" عدواناتها وحروبها على الفلسطينيين، تبدو "إسرائيل" هذه المرة، وكأنها تخوض صراعها وحدها، أمام شعب لم يعد يحتمل المزيد من الظلم والعدوان.
كانت الولايات المتحدة، تقدم "لإسرائيل" الغطاء الدولي، الذي تحتاجه لخوض حروبها ضد الفلسطينيين، لكنها هذه المرة، مضطرة لأن تخوض حروبها وعدواناتها، دون أي غطاء، ودون أي ذرائع أو مبررات، الأمر الذي يشكل قيداً على تفوقها العسكري، ويكشف ثغراتها، وضعفها، وغباء قياداتها وسياساتها.
وسواء كان المستوطنون، قد ساورتهم الشكوك بشأن قدرة حكومتهم على حمايتهم، أو أنهم يحاولون فرض حضورهم في السياسة الإسرائيلية، فإنهم، يصعدون من عدواناتهم ضد الفلسطينيين، في اتجاهات تؤدي إلى توريط الحكومة، التي لم تعد قادرة على ضبطهم، وإخضاعهم لمتطلبات، السياسة الرسمية الإسرائيلية.
صحيح أن اندلاع انتفاضة شعبية شاملة وعارمة، ضد الاحتلال وسياساته ومستوطنيه، تحتاج إلى وحدة وطنية، وهو عامل غير متوفر حتى اللحظة، لكن ما يجري في القدس تحديداً وفي عدد من مدن الضفة، من مواجهات، انتقلت شراراتها إلى الأراضي المحتلة العام 1948، إنما يشكل مجموعة من الهبات الشعبية، التي قد تندفع معها الأوضاع نحو انتفاضة شاملة.
الدماء تسيل في الضفة، والاعتقالات لا تزال تشمل العشرات يومياً وقد تجاوز عدد المعتقلين السبعمائة، منذ اختفاء المستوطنين الثلاثة، الأمر الذي يقدم وفق التجربة التاريخية، الوصفة المطلوبة، لاتساع نطاق المواجهات دون أن تتمكن السلطة من ضبطها وتحجيمها، ودون أن تنجح "إسرائيل" في إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الثاني عشر من الشهر الماضي.
ليس أدل على ضعف "إسرائيل"، في هذه الفترة، من توسلها، الحصول على اتفاق تهدئة جديد مع المقاومة في قطاع غزة، لا يمكن المرور ببساطة على طلب نتنياهو تدخل مصر، لضمان التهدئة، رغم الانتقادات التي صدرت عن بعض وزراء حكومته.
في الواقع، لا يمكن لمصر أن تقبل إقدام "إسرائيل" على تصعيد الوضع مع قطاع غزة، إلى الحد الذي ذهبت إليه في المرات السابقة العام 2008، والعام 2012، فعدا التزام مصر القومي، فإنها صاحبة مصلحة في التهدئة، لما للتصعيد من آثار سلبية على الأوضاع الداخلية المصرية.
نعلم ويعلم الجميع، تداعيات قيام "إسرائيل" بعدوان واسع، وإجرامي على قطاع غزة، حتى لو لم يكن هدفها القضاء على قوة وسيطرة حماس على القطاع.
وفي الحقيقة، فإن "إسرائيل" لا ترغب في أن تستهدف قوة حماس والبنية التحتية للمقاومة في القطاع، على نحو شامل، وحاسم، لأن ذلك، يتعارض في الأساس مع هدفها لتدمير المصالحة الفلسطينية، وإدامة الانقسام.
هكذا تكون إسرائيل قد قيدت أياديها وأرجلها، تجاه قطاع غزة، فطالما أنها ليست صاحبة مصلحة في اقتلاع حركة حماس، رغم صعوبة الأمر، فإن أي تصعيد قوي ضد القطاع سيجلب لها غضب مصر، وربما غضب المجتمع الدولي، وسيلحق أضراراً بليغة، بهيبة مؤسساتها العسكرية والأمنية التي قد تتفاجأ، بما لدى المقاومة من قدرات تسليحية، لا علم لها بأنواعها وكمياتها.
كان من الواضح أن "إسرائيل" لن تنجح في مساعيها لتحقيق التهدئة، وأنه لا مجال لقبول المقاومة بمعادلة هدوء مقابل هدوء، خاصة وأن إسرائيل لم تلتزم بالتهدئة التي تم التوقيع عليها بوساطة مصرية أيام حكم محمد مرسي.
إن ملف المخابرات المصرية، طافح، بالشكاوى الفلسطينية من خروقات وانتهاكات إسرائيلية، بدأت مع توقيع اتفاق التهدئة ذاك، فضلاً عن أنها اليوم ليست في الوضع الذي يؤهلها لفرض التهدئة أو يقنع المقاومة بقبول التهدئة هكذا دون ثمن ودون ضمانات.
في الواقع فإن العلاقة بين حركة حماس ومصر، لا تسمح بتدخل مصري فعال، إلاّ في حال حصلت حماس وفصائل المقاومة على ثمن لقبول التهدئة.
حركة حماس تشعر بأنها في وضع حرج إذا قبلت بالتهدئة المجانية، فيما الضفة الغربية، وخصوصاً القدس تنتفض، لأنها إن فعلت ذلك فستبدو أمام جماهيرها على أنها تتخلى عن جوهر برنامجها وخطابها.
ما يزيد من صعوبة الأمر، أن المصالحة الفلسطينية معطلة حتى الآن، وأن حركة حماس تشكو مرّ الشكوى من تقاعس حكومة الوفاق الوطني، ومن توقف قطار المصالحة، ولذلك فإنه ليس لديها الكثير لتفعله، لإعادة تنشيط الذاكرة الفلسطينية وغير الفلسطينية، بأنها تملك ما تفعله فوق الطاولة، وانها لا يمكن أن ترفع الرايات البيضاء.
التعقيدات التي تحيط بالأوضاع في الضفة والأراضي المحتلة العام 1948، والتي تحيط بموضوع التهدئة، ستدفع "إسرائيل" دفعاً نحو تصعيد محسوب ضد قطاع غزة، للتغطية على ما يجري في الضفة، وبحثاً عن مخرج مناسب من المستنقع الذي وجدت نفسها فيه.
نتنياهو لا يستطيع العودة إلى البيت دون أن يحقق إنجازاً ولو وهمياً لكي يسوقه على الإسرائيليين، وبقاء الحال على ما هو عليه حتى الآن، لا يمنح حكومته المخرج المناسب، حتى لا تجد نفسها أمام محاسبة عسيرة من المعارضة ومن الشارع الإسرائيلي، قد تطيح بالائتلاف القائم.
مرة أخرى، يعيدنا المشهد إلى ما قاله الرئيس الأميركي، باراك أوباما إذ ان "إسرائيل" تنضج في القدر وحدها، وعليها أن تدفع ثمن استهانتها بالدور الذي تقوم به الإدارة الأميركية، وأن تدفع ثمن الإهانات التي وجهتها خلال دورتي الرئاسة الأميركية ضد رجالات الإدارة.
في الواقع لا تزال الأوضاع في منتصف الطريق، ولا يزال اللحم الموجود في القدر غير ناضج بما فيه الكفاية.