تلقّى مخيم الرشيدية تهديداً إسرائيلياً، يوم الخميس 31 تشرين الأول الماضي، طالب الأهالي بالإخلاء، مثل ما يفعل مع المناطق الأخرى في لبنان التي تتلقى تهديدات. لم يقصف المخيم حتى الآن. لكن المعطيات تشير إلى أن بعض العائلات غادرت المخيم فعلاً، كما حدث في بداية الحرب، إلا أنها عادت. في المقابل، هناك عائلات كثيرة لم تغادر منازلها، وهي مصرة على البقاء.
الكلام السابق، من السهل اعتباره صموداً شعبياً في المخيم. لكنه أيضاً حالة ضياع فلسطينية، إذ إن الفلسطيني يجد نفسه في مثل هذه الظروف يبحث أول ما يبحث عن مكان له في مخيم آخر. وعلى الرغم من وجود أعداد كبيرة من الفلسطينيين تسكن خارج المخيمات، إلا أن بعضهم يتعامل مع المخيم بأنه الملاذ. لكن واقع الحال أن المخيمات ليست آمنة كما الكثير من المناطق في لبنان. وليس بالنار الإسرائيلية فقط، بل بنار أشخاص يعلمون أو لا يعلمون أنهم مشغّلون من جهات وأجهزة، يعنيها إشعال الوضع في لبنان وفي المخيمات، وهذا ما حدث العام الماضي في مخيم عين الحلوة، وما جربوا فعله قبل أيام في المخيم ذاته، في محاولة اغتيال أحد المطلوبين. وحسناً فعلت حركة «فتح» بأنها وجّهت لجميع عناصرها أمراً بعدم إطلاق النار، وعدم الخضوع لأي استفزاز كان.
استهدف طيران الاحتلال منزلاً في مخيم عين الحلوة يوم 1 تشرين الأول الماضي، حين حاول جيش الاحتلال اغتيال القيادي في «فتح» منير المقدح. واستهدف مخيم البص حين اغتال يوم 30 أيلول الماضي فتح شريف مع زوجته وابنيه، وهو بحسب بيان حركة «حماس» قائدها في لبنان. وكذلك اغتيال سعيد عطاالله علي، وزوجته وابنتيه، يوم 5 تشرين الأول الماضي، الذي نعته حركة «حماس» بصفته أحد قيادييها في لبنان. هذا فضلاً عن اغتيال 3 من قياديي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في منطقة الكولا يوم 30 أيلول الماضي، هم بحسب بيان «الشعبية» محمد عبد العال، عضو المكتب السياسي ومسؤول الدائرة العسكرية والأمنية، وعماد عودة، عضو الدائرة العسكرية للجبهة وقائدها العسكري في لبنان، بالإضافة إلى عبد الرحمن عبد العال.
هذه الاغتيالات والاستهدافات، تنذر بما هو أسوأ. ومحاولة إظهار الجانب «الأخلاقي» لدى العسكرية الإسرائيلية، باستهدافها بيتاً واحداً في المخيم، من شأنه أن يفعل أمراً واحداً، وهو بث الذعر والخوف بين الناس، وإشعارهم بأن حياتهم مهددة في أي لحظة.
إن معطى بقاء الفلسطينيين في مخيمات الجنوب، رغم التهديدات، ليس صموداً ولا قوة فائضة كما يجرب بعض الإعلام الترويج، كما أنه ليس قوة ناقصة، إنما شعور بالضياع، فسؤال «إلى أين؟» يراود أي فلسطيني يفكر أو يقرر المغادرة في ظروف الحروب. وخياره الأول، في الغالب، الذهاب إلى أحد المخيمات في ظل الظروف الحالية، هو خيار من لا يملك خياراً. ومع أن اللاجئ الفلسطيني يعلم أن المخيمات ستستهدف تحت ذرائع مختلفة، بسبب تجارب عدة في تاريخ القضية الفلسطينية، وبسبب ما يحدث منذ أكثر من عام في قطاع غزة والضفة الغربية، وبسبب القرارات الإسرائيلية الأخيرة بخصوص منع «الأونروا» في الداخل الفلسطيني، وبسبب إدراك الفلسطيني لعقدة ومعضلة اللاجئين أمام الاحتلال الإسرائيلي، وأمام المفاوض الفلسطيني لمّا كان يفاوض. فلكل الأسباب المذكورة، يعرف أن إنهاء وجود اللاجئين الفلسطينيين وقضيتهم، وإبعادهم عن بلادهم وبلاد أهلهم وأجدادهم هدف الأهداف.
يدرك العقل الإسرائيلي أن الفلسطيني الموجود في فلسطين وخارجها، لن يتوقف عن محاولة انتزاع حقوقه وحريته، وأمام هذا الإدراك تستمر محاولات بتر الوجود الفلسطيني من فلسطين ومن العالم. فالذي يحدث في قطاع غزة، هو ذاته ما يحدث بوتائر مختلفة في الضفة الغربية، وبطرق مختلفة في الأراضي المحتلة عام 1948.
ومنذ قيام إسرائيل على أرض فلسطين، واليد الإسرائيلية تمتد إلى فلسطينيي الداخل، إذ لا تميز بين مواطنين في الدولة يحملون جنسيات إسرائيلية، وبين أقرانهم في الضفة الغربية وقطاع غزة. بينما في الشتات الذي يمتد من دول الطوق إلى أنحاء العالم، يجرب أن يمد يده لتدمير وجودهم، وتشتيتهم أكثر، وفرط تجمعاتهم داخل المخيمات بأساليب مختلفة. وهذه الأساليب شهدناها نحن أبناء المخيمات، بعضها ما كان بادياً للعيان، وبعضها انشغل عليه بصمت وبهدوء شديدين. وللأسف ضعف الفصائل والقوى الفلسطينية، وغرقها في تفاصيل صغيرة، أبعدها عن دورها في حياة اللاجئين الفلسطينيين. مثلاً، ذهاب بعض هذه القوى في لبنان إلى نظرية اقتسام الكعكة في بعض المسائل كوظائف «الأونروا» (الكوتة) قلل من قيمتها وقدرتها على المناورة في مواجهة التحديات الكبرى، فباتت أعلى إمكاناتها لمواجهة التغييرات الدولية المتعلقة بالوكالة الدولية المخصصة للاجئين الفلسطينيين، اعتصامات وبيانات لا تنفع.
أيضاً يبدو مؤكداً أن مفاعيل القرارات الإسرائيلية بحق «الأونروا»/اللاجئين الفلسطينيين في فلسطين، ستجد طريقها إلى لبنان وسوريا والأردن، عبر دول أخرى، مثلاً عبر إيقاف أو وضع شروط إضافية للتمويل من أميركا ومن غيرها من الدول. وحينها سنرى كيف ستخضع إدارة الوكالة للقرارات أو الشروط الجديدة، وسنرى كيف ستواجه بالبيانات!
ما علينا مواجهته منذ الآن في هذه الحرب، أن المخيمات في لبنان لن تكون بمنأى، واحتمال استهدافها وارد جداً، وحجم الجرائم فيها ربما سيكون عالياً. وربما هذه المرة، في هذه الحرب التي يراد منها حسم كل الملفات، سيدفع باللاجئين الفلسطينيين دفعاً إلى المغادرة، وسيتم العمل على إخضاع القيادات الفلسطينية للقبول بأي شروط في ضوء الحرب الحالية وما بعدها.
ليس بالضرورة نجاح ما سبق، كله أو بعضه، لكن ما هو مؤكد أن مسألة حسم قضية اللاجئين الفلسطينيين موضوعة على الطاولة بقوة، والضغط سيكون بأوجّه في المستقبل لإنهائها. والمطلوب حراك سياسي وديبلوماسي قوي، يبقي هذه القضية مستيقظة في وعي السياسة العالمية، وفي وعي أصحابها وقياداتهم الذين يذكرونها بروتوكولياً من كثرة ما كرروا كلمات كـ»حق العودة» و»القرار 194» وغيرهما، من دون الإتيان على فعل جدي.
* صحافي فلسطيني
الأخبار اللبنانية