الذين يكتفون بمجرد «الفرجة» على مشهد الموت في غزة، ليس لهم حق انتقاد الضحايا، فذلك هو موقف المشاركين في حرب الإبادة، حتى لو كانت المشاركة بالصمت. هؤلاء لا يكتفون بالصمت، ولا يشعرون بالخزي أو العار، وإنما يتكلمون قبحا ووقاحة. كل روح تسعى في جسد حيّ في غزة هي مشروع شهيد. الأحياء الشهداء يدافعون عن حق الحياة بلا طلب من أحد. حق الحياة لغيرهم أولا، ولهم أخيرا. إنهم إذ يموتون في سبيل ذلك، أو يصابون، أو تُكتَب لهم صفحة جديدة في سجل الحياة، فإنهم الشهداء الأحياء، نَصَرَهم من نَصَرَهم، أو تآمر عليهم من تآمر، أو تواطأ ضدهم من تواطأ، أو أيد عدوهم من أيّد، فإنهم الأحياء الشهداء على الحق.
فماذا يقول البرابرة المتوحشون، وهم يرون الأرواح وقد رحلت، والبيوت وقد خربت، والأرض وقد أصبحت ركاما؟ وماذا يقول الشهود؟ ماذا يقول أخوة الدم والدين والتاريخ والإنسانية وهم يرون الأحياء السكنية والمستشفيات، يتم تفجيرها بمن فيها؟ ماذا تقول البشرية وهي ترى منظمة دولية إنسانية هي «الأونروا» يتم تجريمها وتجريدها من دورها في تقديم الماء والغذاء والكساء والدواء وأماكن الإيواء للفلسطينيين ضحايا العدوان الإسرائيلي؟
إن المسؤولية الأولى في اليوم التالي للحرب، بينما المقاومة صامدة، هي إنهاء الكارثة الإنسانية التي يعيشها مئات الآلاف في قطاع غزة. الفلسطينيون يتعرضون لحرب إبادة شاملة، إبادة الأرواح بالقتل، وإبادة المباني والمنشآت والبنية الأساسية بالتدمير، ومحاولة إبادة الهوية بالتشويه، بالمساواة بين هوية المقاومة وسلوك الإرهاب. سياسة الحصار بجدران النار، والقتل بالرصاص، والتجويع حتى الموت هي أسلحة حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني. وإن وقف هذه الحرب هو مسؤولية تتقدم على كل ما عداها. لقد ضربت إسرائيل المساكن ودمرتها، فلجأ من بقوا على قيد الحياة إلى المدارس والمستشفيات، فلما دمرتها أيضا، خرج الشهداء الأحياء يحتمون بالعراء، فإذا بالوحشية البربرية الصهيونية تطاردهم وتقتلهم، وتتركهم أشلاء في العراء، يُدفَنون بلا أكفان تحت الركام.
الصمود والموت في جباليا
جباليا تقدم مثالا على البطولة والصمود، رغم ثلاث هجمات إسرائيلية بربرية متوحشة في ديسمبر من العام الماضي، ثم في مايو، ثم الآن منذ الشهر الماضي، ما تزال تقدم الشهداء كل يوم. وكأن أهلها يقولون: حتى لو سَوّت إسرائيل جباليا كلها بالتراب، فإن الأرض ستُنبِت مقاومة، وشهداء أحياء من جديد. جباليا هي مجرد مثال. جيش الاحتلال لم تعد له وظيفة هناك غير القتل والتخريب بلا هدف، ولا استراتيجية. وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت نفسه اعترف بذلك، وحذر في رسالة إلى نتنياهو (27 أكتوبر الماضي) قائلا، «إن حرب إسرائيل تفتقر إلى اتجاه واضح، وتحتاج إلى أهداف محدثة». وقال إن مهمة الجيش في غزة قد انتهت، وأن الأهداف هناك يجب أن تقتصر على «إنشاء بيئة غير مُهددة، ووقف نمو (المقاومة)، وتأمين عودة جميع الرهائن، وتعزيز نموذج الحكومة المدنية لتحل محل حماس». هو يعترف بأن الجيش لا يستطيع أن يقوم بهذه المسؤوليات، لكن الحكومة تدرك أنها أيضا لن تستطيع، وهذه هي معضلة جيش الاحتلال الآن في غزة.
استراتيجية إسرائيل المباشرة في غزة، كما عبر عنها مئير بن شبات (23 من الشهر الماضي) رئيس «معهد مسغاف» للاستراتيجية الصهيونية ودراسات الأمن القومي- رئيس مجلس الأمن القومي سابقا، تتضمن إجراءات تفصيلية، منها تقديم إغراءات للجماعات التي تحتفظ بالمحتجزين، بما فيها حماس، تشمل ضمانات أمنية وحوافز مالية وجوازات سفر أجنبية تسمح للأفراد وأسرهم بالإقامة والعمل في الخارج، مقابل تسليم من لديهم من المحتجزين. كما تتضمن إضعاف ما تبقى من قوة حماس، بما في ذلك القدرات اللوجستية والإدارية، والسعي لإقامة سلطة بديلة مستقرة بمساعدة عربية ودولية. وشدد على أن تكون المساعدات الإنسانية إلى أهالي قطاع غزة تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي. وإذا أردنا اختصار الأفكار التي طرحها بن شبات نقول، إنها تدور حول ثلاثة محاور رئيسية، الأول هو إزالة مصادر تهديد الوضع الحالي الذي وصلت إليه الحرب. والثاني هو العمل على منع أي احتمال لعودة التهديدات من جديد. أما الثالث فهو التفرغ بعد ذلك لمواجهة إيران.
8 أسلحة لدى الدول العربية
الكارثة الإنسانية في غزة يجب أن تتوقف وتنتهي. ومن العار على حكومات الدول العربية أن تترك من تبقى من الفلسطينيين أحياء ليواجهوا برد فصل الشتاء، الذي دخل عليهم مبكرا، في العراء. يجب إقامة مراكز الإيواء، وتوصيل الماء والغذاء والدواء والوقود والكهرباء إلى كل أسرة فلسطينية ما تزال على قيد الحياة، وكل فلسطيني ما يزال صامدا يتنفس هواء فلسطين. ويجب أن يكون إنهاء هذه الكارثة الإنسانية تحت إشراف دولي. إن إنهاء حرب الإبادة مسؤولية تتقدم على مفاوضات تبادل المحتجزين والأسرى، وتتطلب وقفا غير مشروط لإطلاق النار، وإبعاد المدرعات الاسرائيلية عن كافة المناطق المأهولة سكانيا، والمأهولة اقتصاديا مثل المزارع ومنشآت البنية الأساسية، ومنع استخدام الطائرات المسيرة، أو القصف الجوي نهائيا، حتى يتم الاتفاق على شروط وقف دائم للعمليات العسكرية. بيانات الإدانة والشجب لا تحمل الأغذية إلى الجوعى، ولا الأدوية إلى المرضى، ولا الوسائل التعليمية لأطفال يمثل التعليم حقا من حقوقهم الأساسية. المؤتمرات والقرارات الدولية أو الثنائية أو الفردية، من جانب دول ومؤسسات النظام الدولي لا توقف غارات الطائرات بالقنابل والصواريخ، ولا توقف قذائف الدبابات ورصاص البنادق، ولا تنهي حصار السفن الحربية لسواحل قطاع غزة، أو لبنان.
الآن هو وقت العمل من أجل اليوم التالي للحرب، حتى إن كان ذلك متأخرا. وهو وقت المسؤولية التاريخية التي يجب أن تتحملها الدول العربية، قبل أي طرف آخر. تحقيق هذه المسؤولية ليس بالمهمة المستحيلة؛ فهناك الكثير من الأسلحة التي يمكن أن تستخدمها تلك الدول إذا اجتمعت لديها الإرادة والتصميم على العمل. من هذه الأسلحة ما يلي:
أولا: الدول المستوردة للسلاح من الولايات المتحدة، عليها أن تتخذ قرارات بتعليق عقود الاستيراد، لأن الولايات المتحدة شريك في جريمة حرب الإبادة الشاملة في غزة، بتزويد إسرائيل بالسلاح والحصانة الدبلوماسية الدولية وحمايتها عسكريا.
ثانيا: الدول المتعاونة مع إسرائيل عليها مسؤولية تعليق هذا التعاون فورا، وبلا شروط وفي صوت واحد، يرفض سياسة القتل والتجويع حتى الموت التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، والتي يمكن أن تستخدم ضد شعوب أخرى في المنطقة، وهو ما نراه يتجسد في لبنان.
ثالثا: تقييد استخدام القواعد العسكرية الأمريكية الموجودة في عدد من الدول العربية، بحيث تكف القوات المقيمة فيها، أو التي تستفيد من تسهيلاتها عن المشاركة في أي نشاط عسكري لمساعدة إسرائيل، بشكل مباشر أو غير مباشر أو التهديد بذلك، حتى تنسحب القوات الإسرائيلية تماما من جنوب لبنان والأرض الفلسطينية المحتلة وإنهاء الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني خلف جدران النار التي أقامتها وجعلته حبيسا وراءها.
رابعا: استخدام سلاح المال، والبدء في سحب الاستثمارات المالية من سندات الخزانة الأمريكية، والبنوك والمؤسسات المعروفة بتأييدها للحرب.
خامسا: سحب الاستثمارات من الشركات التي لها علاقات مباشرة أو غير مباشرة بالمؤسسة العسكرية في دولة الاحتلال. ومقاطعة بضائع وخدمات الشركات التي لها علاقة بتلك المؤسسة بما فيها التي تعمل في المستوطنات.
سادسا: استخدام سلاح النفط والغاز ضد كل الدول التي تؤيد إسرائيل مباشرة، أو بشكل غير مباشر، عسكريا أو ماليا أو دبلوماسيا، أو بغير ذلك من وسائل التأييد.
سابعا: استخدام سلاح الدبلوماسية الجماعية، لبناء تحالفات وعلاقات تعاون مع الدول المؤيدة للحقوق الفلسطينية، وعلى رأسها جنوب افريقيا وأيرلندا وإسبانيا والنرويج، من أجل قيادة حملة عالمية، تشمل أيضا منظمات المجتمع المدني، لوقف حرب الإبادة، وإنهاء الاحتلال والحصار وسياسة التجويع، ووضع أسس عملية لإعادة إطلاق عملية سياسية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة بضمانات دولية كاملة.
ثامنا: وأخيرا يجب أن تكون العلاقات الطبيعية مشروطة في إطار سياسة التعايش القائم على الحق والعدل، والاحترام المتبادل، والكف عن استخدام القوة في تسوية المنازعات. يجب على حكومات الدول العربية أن تكف عن ترديد أكذوبة أن العلاقات مع إسرائيل يمكن أن تساعد على تحقيق السلام، لأن 45 عاما من السلام بين مصر وإسرائيل، وأكثر من ثلاثين عاما من السلام مع إسرائيل بواسطة الأردن والفلسطينيين لم تجلب السلام إلى المنطقة، بل إن المنطقة هي أبعد ما تكون عن السلام الآن، في الوقت الذي يتم فيه تجهيز عملية عسكرية ضخمة ضد اليمن، بعد أن استباحت القوات الإسرائيلية أراضي لبنان وسوريا.