الآتي ينبغي أن نفكر فيه جيداً، حتى لا تمر الجريمة الإسرائيلية كسابقاتها من دون حساب أو ترتيب.
(1)
قبل أي كلام في الموضوع، أرجو أن يتوقف النائحون واللوَّامون عن التذرع بالثمن الباهظ الذي دُفع، والاتكاء عليه لهجاء المقاومة وتبكيتها، والادّعاء بأنها لو رضخت من البداية «وسمعت الكلام» وأحنت رأسها للعاصفة، لما جرى ما جرى. فلا أريقت الدماء ولا هُدمت البيوت ولما انقطع التيار الكهربائي ولما تحول قطاع غزة من سجن إلى مقبرة كبرى. وإذا نحينا جانباً كلام الصهاينة العرب الذين هم ضد المقاومة من الأساس، وافترضنا حسن النية في غيرهم فينبغي أن ندرك أن معارك التحرير تقاس بنهاياتها وخواتيمها وليس بأطوارها وجولاتها. ذلك حدث في الحرب العالمية الثانية ولاحقاً في فيتنام والجزائر. حيث لا ينبغي ولا يجوز إحصاء رؤوس الضحايا أثناء العراك لأن ذلك من مداخل الانكسار المؤدي إلى الهزيمة. وفي أمثالنا الدارجة أنك إذا شغلت نفسك في العراك بإحصاء الرجال فلا تقدم على المعركة من الأساس. ليس ذلك حفاوة بالموت ولا تشجيعاً على التضحية المجانية ولكن لضبط بوصلة المقاتلين الذين ينبغي أن ينشغلوا بتحقيق النصر مهما كان الثمن. بوجه أخص فإنه في مواجهة العربدة الإسرائيلية التي لم تعترف للفلسطينيين منذ قرن تقريباً بحقهم في الوجود، ولا نرى لمشكلتهم حلاً سوى الاقتلاع والإبادة، فإن المناضلين الفلسطينيين لا يبقى لهم خيار. وبعد ان جربوا مفاوضات ومراوغات السلام منذ أكثر من 20 عاماً، فإن تحدي تلك العربدة ومحاولة ردع العدو والرد على جرائمه وجبروته، ليس له ان يتم إلا بالصورة التي تمت بها في غزة.
(2)
إذا أدرنا ظهورنا للنائحين والمنددين، وألقينا نظرة على ساحة المعركة، فسندرك أننا بإزاء جريمة مكتملة الأركان، كل ما تتطلبه هو التوثيق والتحقيق، لكي تقدَّم إلى العدالة الجنائية الدولية يوماً ما، بعد عشر أو عشرين أو حتى خمسين سنة. ذلك انها كجريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم. ولكنها تظل تلاحق مرتكبيها إلى يوم الدين. أدري أن مقاومة العدوان هي المهمة الأولى، وأن شاغل الجميع هو تجنب الموت الذي بات يهدد كل إنسان في أي موقع كان. لكن ذلك كله شيء وما أدعو إليه شيء آخر قد يكون تالياً إن لم يكن موازياً، ذلك أن جثث القتلى تتوزع بين الطرق وتحت الأنقاض، وأشلاؤهم تُرى رأي العين والطريقة التي قتلوا بها تعلنها الجثث بغير ادّعاء. الذين قتلوا بالصواريخ معروفون بالاسم والذين قتلوا بالرصاص في عمليات الإعدام الجماعي كما حدث في خزاعة لا تزال الآثار ظاهرة على أجسادهم، والذين هدمت البيوت فوق رؤوسهم مكومون في ثلاجات الخضراوات بعدما ضاقت بهم ثلاجات الموتى. أما الدماء النازفة فلا تزال طرية لم تجف بعد، ناهيك عن أن القصف المجنون يضيف إليها المزيد كل يوم. ولا تسأل عن الشهود، فكل أبناء غزة رأوا الموت بأعينهم سواء في بيوتهم أو بيوت إخوانهم وجيرانهم.
إلى جانب ذلك فالقتلة موجودون ومعروفون، أسماؤهم ووظائفهم وتسلسلهم الإداري، فضلا عن تصريحاتهم التي وعدت بالقتل ودعت إليه وباركته. ليس ذلك فحسب وإنما إلى جانب الفاعلين الأصليين فأسماء الشركاء والمحرضين بدورها معروفة. الخلاصة أن أركان الجريمة وأطرافها وضحاياها، جميعهم تحت أعيننا، وليس هناك ما ينقص عملية التوثيق سوى القرار السياسي والهمَّة. وتلك مسألة حبذا لو دعت إليها السلطة في رام الله، ولكن المنظمات الحقوقية الفلسطينية تستطيع أن تقوم بها دونما حاجة إلى إذن السلطة.
إن الدكتور سلمان أبوستة صاحب مشروع «أرض فلسطين» الذي أشرف على إصدار «أطلس فلسطين» وغطى به الفترة من 1917 إلى 1966، يعمل منذ ربع قرن في توثيق كل ما له صلة بالنكبة والقضية، ولا يزال يبحث عن الشهود الأحياء كي ينقل رواياتهم ويوثقها بعد مقارنتها بغيرها. وإذا كان ذلك الجهد يُبذل لتحقيق ما جرى قبل 65 عاماً فأيسر منه كثيراً أن يحاول الباحثون والنشطاء الفلسطينيون توثيق الحاصل هذه الأيام. وإذا كان الجهد الأول يقدم للدفاع عن التاريخ وحمايته من الاندثار، فإن الجهد المطلوب الآن يراد به توفير أدلة إدانة المجرم تمهيداً لملاحقته وحسابه على ما اقترفت يداه.
أتابع الجهد اليومي الممتاز الذي يبذله الأستاذ راجي الصوراني مدير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان في الضفة، في فضح الجرائم الصهيونية والجنايات التي ارتكبتها والتشوهات التي أحدثتها في مختلف أوجه الحياة الفلسطينية. وأقدِّر الجهد الذي تبذله منظمات حقوقية أخرى ونشطاء لا تنقصهم الخبرة أو الحماس، لكنني أتمنى أن ينتهز هؤلاء جميعاً الفرصة الراهنة لكي يشكلوا فريقاً يقوم بتوثيق وتحقيق الجرائم الصهيونية التي ارتكبتها إسرائيل في عدوانها الأخير على غزة. ولست أشك في أنهم أدرى مني بكيفية احكام عملية التوثيق وتجميع أدلة الإدانة لتجهيز ملف تقديم الملف إلى القضاء الدولي في أي فرصة.
(3)
التوثيق أهم من التحقيق الذي لا ينبغي أن تقلل من أهميته. ذلك ان التوثيق يسجل وقائع الجريمة وأدلتها، في حين أن التحقيق يسلط الضوء على ملابساتها. والتوثيق مهمة الفلسطينيين بالدرجة الأولى. أما التحقيق فهو يحتمل كلاماً آخر، تؤيد ذلك تجربة القاضي الجنوب أفريقي ريتشارد غولدستون حين أعدَّ تقريره في العام 2009 بعد العدوان الإسرائيلي الذي تعرض له القطاع في بداية ذلك العام. ذلك أن التقرير أدان إسرائيل صراحة، ولكن رئيس الفريق تراجع عن موقفه في وقت لاحق، وأغلب الظن بسبب الضغوط التي تعرض لها. ومع ذلك فإنه ظل وثيقة تاريخية قابلة للتوظيف والاستثمار في أي وقت إذا توفرت الإرادة السياسية المطلوبة.
في كل الأحوال فالتوثيق مرحلة سابقة على التحقيق. وبالمناسبة فإن مهمة التحقيق يُفضَّل ان تتم من خلال مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، التي سبق لها تشكيل لجنة تقصي الحقائق التي رأسها القاضي غولدستون. إلا أن هناك وفرة من الخبراء والحقوقيين الفلسطينيين الذين يستطيعون أن يتعاملوا مع الإجراءات القانونية المطلوبة لإيصال ملف القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية. وفي مقدمة هؤلاء الدكتور أنيس القاسم المحامي الدولي المعروف والخبير الدستوري لميثاق منظمة التحرير، وهو في الوقت ذاته عضو في لجنة جرائم الحرب الدولية في جنيف. وقد شارك أكثر من 20 من أولئك الخبراء في المؤتمر الدولي الذي عقد في بيروت العام 2005 حول إسرائيل والقانون الدولي، الذي ركز على كيفية التعامل مع جرائم الحرب التي ترتكبها.
إن عرض الموضوع على المحكمة الجنائية الدولية، إذا قدر لها أن تتم، فينبغي أن يكون ذلك من خلال أي دولة منضمة إلى معاهدة روما التي أنشأت المحكمة الدولية (في العام 1957). وحتى الآن فإن المملكة الأردنية هي الوحيدة في العالم العربي التي أنجزت تلك الخطوة. ويتردد أن السلطة الفلسطينية قدمت طلباً بهذا الخصوص، إلا أن ذلك لم يُحسم بعد. وقد اشرت تواً إلى ان تحريك القضية في ذلك الاتجاه يتطلب إرادة سياسية أرجو أن تتوفر في الوقت المناسب. (للعلم: نشرت صحيفة هاآرتس في 3/8 ان الحكومة الإسرائيلية شكلت فريقاً كي يستعد لمواجهة التحقيقات التي يمكن أن تجرى في وقائع الحرب).
(4)
واجب الوقت ليس مقصوراً على المسارعة إلى توثيق ما جرى، ولكنه ينبغي أن يشمل أيضاً وعلى وجه السرعة محاولة التفكير في إعمار القطاع والبحث عن أساليب فعالة لإيواء عشرات بل مئات الألوف الذين هدمت بيوتهم ولاذوا بالمدارس والمساجد والخرائب. وتلك مهمة تحتاج إلى تضافر جهود أطراف عدة دولية وإقليمية إلى جانب المؤسسات والمنظمات العربية ذات الصلة. وإذ أفهم ان تلك مسألة ينبغي أن يتصدى لها أهل الاختصاص مع أهل القرار السياسي، ولست انتمي إلى أي منهما، إلا أنني أسجل هنا ملاحظتين هما:
ـ إنني قرأت عن معماري ياباني اسمه شاجيرو بان، احتفل في طوكيو قبل حين بمنحه جائزة الإبداع المعماري. فقد نشرت عنه صحيفة لوموند الفرنسية في 5/4/2014 مقالة استعرضت سيرته ومعالم تميزه. وأشارت في ذلك إلى تنفيذه مشروعات مهمة في بلاده وفي فرنسا، إلى جانب تصميمه وتنفيذه بنايات فاخرة لعديد من الميسورين في أوروبا. لكن الرجل ذاع صيته أكثر حين صمم منازل صغيرة من الورق المقوى مخصصة لإيواء المنكوبين. وقد نفذ فكرته تلك في عدة دول ضربتها الزلازل والكوارث الطبيعية مثل رواندا وتركيا والهند والصين، إضافة إلى بلده اليابان. وتلك خبرة تستحق الدراسة وحبذا لو تمت الاستعانة بها لمواجهة الأزمة التي نحن بصددها.
ـ الملاحظة الثانية انه في أعقاب العدوان الإسرائيلي على غزة في بداية العام 2009 الذي أشاع قدراً غير قليل من الدمار في القطاع، اهتم اتحاد المهندسين العرب بمشروع إعمار القطاع. وطرحت آنذاك فكرة استخدام الأنقاض والركام في إقامة مبان جديدة. وفيما أذكر فإن الدكتور مهندس شريف أبوالمجد، وكيل هندسة حلوان آنذاك، درس الموضوع من هذه الزاوية. ووجد ان ثمة تجارب ناجحة تمت فيها معالجة الأنقاض وتوظيفها في صناعة «بلوكات» تستخدم في إقامة مبان جاهزة جديدة. ورغم ترجيح نجاح تكرار التجربة في القطاع إلا أن عوامل عدة عطلت تنفيذها، أهمها رياح السياسة ونقص التمويل. وتلك خلفية تسمح لمثلي أن يتأملها جيداً، وأن يدعو إلى التفكير فيها كبدائل مرشحة للإسهام في الإعمار المنشود.
إذا لاحظت أننا بحاجة إلى إرادة سياسية في محاسبة إسرائيل على جرائمها أمام المحكمة الجنائية الدولية، وأننا أيضاً بحاجة إلى إرادة سياسية لفتح ملف إعمار غزة واللجوء إلى حلول مبتكرة لأجل ذلك، فربما اقنعك ذلك بأن السياسة هي بيت الداء، وأنها المشكلة وهى الحل.
ـ وإذا انتبهت إلى أنني لم أشر إلى دور للدول النفطية الخليجية في الحديث عن الإعمار، فلا تحسبنَّ أنني سهوت عن ذلك، لكنني تعمدته، لأنني وجدت أن أبرز تلك الدول تقف في الناحية الأخرى. لذلك فإن حماسها منصرف إلى أمور ليس بينها القضية الفلسطينية.