في الانعتاق من المأزق العميق الذي وجد اليهودي الإسرائيلي نفسه فيه، والتحرّر من عبء الروح المثخنة التي حملها معه من أوروبا والمرتبطة باللّاقوة، وبلغت ذروتها الحمراء في الهولوكوست، يجد اليهودي سلوته للفكاك من عقدة الماضي المؤلم في داخله عبر نزعة الانتقام، فصار يقتفي طريقة جلّاده النازي، كما أظهرت الحرب العدوانية على لبنان في يونيو عام 1982، وهي أطول حرب وأكثرها إثارة للانقسام في تاريخ إسرائيل. وبلغت ذروة الانتقام وبشاعته في العدوان الوحشي على غزة في السابع من أكتوبر سنة 2023 والذي فاق في حجم القتل والدمار كل حروب التاريخ المعاصر. نفّذ الجيش الإسرائيلي أكثر من ثلاثة آلاف مجزرة على مدى أحد عشر شهراً تجاوز ضحاياها أربعين ألف شهيد، ثلثهم من الأطفال والثلث الآخر من النساء، فيما تسبّب التدمير الشامل في تحويل 70 في المئة من قطاع غزة مكاناً غير قابل للسكن، ونزوح 1.7 مليون نسمة من القطاع أي ما يعادل 80% من إجمالي السكان، وفقاً للأمم المتحدة. كشفت حروب إسرائيل على لبنان وفلسطين عن تطابق سلوك اليهود والنازيين في ارتكاب الإبادة الجماعية ضد خصومهم، فقد كانت الحرب عملاً انتقامياً مؤجّلاً لمحرقة يهود أوروبا. ما كان مثيراً للقلق بالنسبة إلى النقّاد اليهود أنّ الدولة اليهودية نفسها كانت إعادة إحياء ألمانيا النازية.
يرى المؤرخ الأميركي ديفيد بيال (David Biale) أن سرعة انتقال اليهود من الهوان الشديد إلى القوّة المفرطة أدّت إلى حدوث أزمة في الأيديولوجية اليهودية. فثمة تنافر حاد بين إسرائيل الدولة والشتات اليهودي، يعكس نفسه في اللغة السياسية، وهي لغة تتّصل في إمكانات السلطة السياسية اليهودية وحدودها في العالم الحديث. وأن الدعوة هي لتحقيق مصالحة بين اللغة الجديدة وطبيعة القوة في التاريخ اليهودي.
يلتقي جمهرة من المؤرّخين والمفكرين اليهود على حقيقة الاستقالة التاريخية لليهود والموقف السلبي من التجربة التاريخية لليهود، ممثّلة في الشتات الطويل الأمد، وبكونه تجربة العجز السياسي اليهودي، كما تعكسها حنة آرندت في تصوير التجربة اليهودية عبر التاريخ على أنها بمنزلة خروج عن التاريخ وتوسّل اليهود هامش حركة الأمم بحثاً عن دور على أمل الاضطلاع بمسؤولية مستقلة وذاتية.
وتنظر آرندت إلى أن ولادة معاداة السامية الحديثة ونموّها ترافقا مع الاندماج اليهودي والعلمنة وتلاشي القيم الدينية والروحيّة القديمة لليهودية. وكان القلق من الانقراض البيولوجي والتفكك من الداخل يساور عدداً كبيراً من اليهود، وجاءت معاداة السامية كضمانة أبدية للوجود اليهودي.
واجه اليهود أزمة هوية عميقة وكان طرفاها هما الدين والقومية، وأن تظهيرها المادي يتمثل في الدولة سواء أكانت قومية/وطنية أم دينية. اختار الصهاينة تفسيراً للسيادة الوطنية مستمداً من تراث القرون الوسطى المسيحية. ومن منظور قومي، عنت السيادة إلغاء الولاءات المتعدّدة وإنشاء سلطة سياسية واحدة. بالنسبة إلى الصهاينة، كان المفهوم الجديد للسيادة رهاناً لحل مشكلة الهويّة اليهودية في القرن التاسع عشر: بينما كان لليهود في العصور الوسطى هويّة واحدة كأعضاء في الجماعة اليهودية، أصبحت هويتهم في العالم الحديث مجزّأة. لقد وعدت السيادة السياسية بحل هذه المشكلة عبر فرض هويّة واحدة، تقوم على مبدأ المواطنة بدلاً من التصنيف الديني.
بعد انتقال الصهيونية من المعارضة إلى الدولة، تخلّت عن الحماسة الثورية وبدأت مرحلة الإرهاب في استعادة راديكالية لتجربة الثورة المضادة في فرنسا والتي أنهت عهد اليعاقبة. وأصبحت أيديولوجية بن غوريون الجديدة تدعى «الدولة» (مملخات)، وكان يرى في الدولة الوارث التاريخي للحركة الصهيونية والصورة النهائية التي تصل إليها، فتصبح هي بؤرة الولاء والمصدر الوحيد للهوية، لتحل محل جميع المؤسّسات الصهيونية التي كانت قائمة قبل ولادتها. ينظر بن غوريون إلى الدولة كتجسيد لإرادة الله وليس لإرادة العامة، وتالياً جعل الدولة ممثلة، من منظور ديني، عن الشعب اليهودي في جميع أنحاء العالم.
يقدم يشعياهو ليبوفيتش (Yeshayahu Leibowitz) المختص في اليهودية والمحرر السابق للموسوعة العبرية، مقاربة نقدية ضد دولنة اليهودية، ويضيء على تجربة الصراع في الكيان بكونه استمراراً للتاريخ اليهودي وتمرّداً ضدّ الديانة اليهودية. كان التعويل على أن تحل دولة بن غوريون محل الصهيونية، إلا أنّها وجدت نفسها في شراكة مع الصهيونية الكلاسيكية في عداء ما للتاريخ اليهودي. وكان المأمول أن تحل الهوية الإسرائيلية العلمانية الجديدة، القائمة على المفهوم الحديث لـ«المواطنة»، محل الهوية اليهودية بصبغتها الدينية، أملاً في إنشاء أمّة جديدة من المجاميع المتنوعة التي يتألف منها المجتمع الإسرائيلي. وهذا ما لم يتحقق، بل إن جنوحاً عارماً نحو الدولة اليهودية بمعناها الديني فرض نفسه مع الصعود المتعاظم للأحزاب الدينية اليمينية المتطرفة والتي يخشى من هيمنتها على المشهد السياسي الإسرائيلي في أي لحظة، وهذا ما بدا جلياً في حكومة إسرائيل السابعة والثلاثين برئاسة بنيامين نتنياهو، والتي تشكّلت في 29 كانون الأول 2022 بعد انتخابات الكنيست في 1 تشرين الثاني 2022.
في مقابلة مع ليبوفيتش في منتصف أيلول 1985 حول تأثير الشريعة اليهودية (الأحكام والتقاليد والقوانين) المعروفة باسم «الهالاخاه» على المدنيين الإسرائيليين، أجاب بأن القضية ليست إسرائيل بل الشعب اليهودي. ولفت إلى أنه منذ بداية القرن التاسع عشر، نشأت أزمة كبيرة في اليهودية والشعب اليهودي، وبدا مرتاباً من إمكانية التغلب على هذه الأزمة. والسبب يعود إلى تنكّب اليهود من الهوية الدينية إلى الهويّة السياسية، فلأكثر من ثمانين جيلاً قبل الأزمة هذه، كان الشعب اليهودي يعرّف بهويته الدينية، أي اليهودية، ولكن هذا التعريف لم يعد صالحاً في القرن التاسع عشر. وعلى مدى السنوات الـ 150 الماضية، كانت هناك عملية تفكّك وتحلّل لهذه الرابطة. ونفى ليبوفيتش أن تكون إسرائيل قادرة على معالجة هذه الأزمة، لأنّها ليست سياسية محض، وإنما ثقافيّة وأيديولوجية وهوياتية واجتماعية.
تنبّأ ليبوفيتش بمصير حالك لليهود في حال بقيت الوحشية المتزايدة للمجتمع الإسرائيلي، والتي ستؤول حكماً إلى فصل الدولة عن يهود العالم. مع أنّ التجربة التي كانت تشغل اهتمامه حينذاك هي سياسة حكومة آرييل شارون ورافول إيتان وحاييم دروكمان، إلا أنّ المعايير التي وضعها للحكم على مصير أي حكومة تنتهج سياسة مماثلة تفضي إلى خواتيم مماثلة. وأنّ التعاطف الذي اكتسبته إسرائيل من معظم دول العالم ذات يوم سوف ينقلب إلى كراهية وازدراء في جميع أنحاء العالم، وأنّ الدولة التي كان من المفترض أن تكون مصدر فخر الشعب اليهودي ومجده، تتحوّل بسرعة إلى مصدر إحراج له.
على خلفية الأزمة القضائية في مطلع عام 2023 بين الائتلاف الحكومي اليميني بقيادة نتنياهو والمعسكر المعارض، كشف الانقسام العميق داخل المجتمع الإسرائيلي عن أزمة وجودية تتظهّر لأول مرة على نطاق واسع، وتكون حديث السياسي، والمثقف، ورجل الدين، والتاجر، والفيلسوف، والجندي، ورجل الأمن، بل أصبحت حديث الشارع الإسرائيلي عموماً، بعد خروج المظاهرات في الشوارع في رد فعل على التعديلات القضائية بتدخّل مباشر من الحكومة، بهدف إنقاذ نتنياهو من المحاكمة على خلفية ضلوعه في قضايا الفساد المالي. نعم، كان العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023 فرصة لهروب نتنياهو من حتفه السياسي، وهذا يفسّر إصراره على إطالة أمد الحرب رغم فشل أهدافه منها، وتمزّق صورة الكيان الإسرائيلي على مستوى العالم بفعل مجازره الوحشية وسوقه إلى محكمة العدل الدولية في 11 كانون الثاني 2024. ما يجدر لفت الانتباه إليه، أن أهدافاً شخصية ذات بعد تاريخي وإستراتيجي كان يسعى نتنياهو إلى تحقيقها ومن بينها أن يتحوّل إلى قائد تاريخي للكيان في مرحلة زمنية فاصلة. إن إصراره على إطالة أمد الحرب والنيّة المبيّتة لتنفيذ خطة التهجير الجماعي أي «النكبة الثانية» للشعب الفلسطيني في غزّة أولاً والضفة الغربية ثانياً وفلسطينيي الـ 48 ثالثاً محثوثان برغبة جامحة في وراثة الزعامة التاريخية لابن غوريون، بأن يكون المؤسس الثاني للكيان. ولهذا السبب، لم يكن نتنياهو يصغي لأيّ دعوة لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ولا حتى التوقّف عند إجراءات محاكمة العدل الدولية في لاهاي على جرائم الحرب التي كان الجيش الإسرائيلي يرتكبها في مدن القطاع ومحافظاته.
إن تمزّق صورة الكيان الإسرائيلي كأحد مفاعيل الصهيونية على مستوى العالم ما هو سوى أحد تظهيرات الأزمة التكوينية التي عاشها الكيان منذ نشأته، وتعبّر عن نفسها بصور متعددة، سياسية وثقافية واجتماعية.
* كاتب عربي