منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، حذّر محور المقاومة من توسّع رقعتها لتطال المنطقة برمّتها، وأكد في كل مرة ضرورة إنهائها عبر إقرار وقفٍ لإطلاق النار. غير أن الكيان الإسرائيلي ظلّ مصرّاً على استكمال فظاعاته، في ظلّ الدعم المستمرّ الذي يتلقّاه من الولايات المتحدة. وتزامناً، تزايدت الهجمات الإسرائيلية على جنوب لبنان وسوريا، فضلاً عن الممارسات الاستفزازية التي ترمي إلى جرّ إيران إلى الحرب.ولعلّ أكثر السيناريوات ترجيحاً، منذ السابع من أكتوبر، يتمثّل في استغلال الكيان الإسرائيلي، ومن ورائه الولايات المتحدة، الحرب في غزة، لاحتلالها بالكامل، وربما أيضاً اجتياح جنوب لبنان. وفيما يحذّر معظم المحلّلين من تبعات هكذا سيناريو، تُبيّن الحقائق الميدانية والوقائع على الأرض، مضيّ إسرائيل في تطبيقه. من هنا، وجب النظر إلى جميع المزاعم الأميركية حول العمل على صفقة تتيح وقفاً لإطلاق النار في غزة، بعين من الريبة والشكّ، وأيضاً تحليل الظروف المحيطة بالحرب من زاوية الفرص التي أوجدتها لواشنطن. وممّا تُظهره الشواهد والقرائن، فإن تداعيات العدوان المتواصل، قد طالت، في الوقت الراهن، المنطقةَ بشكل ملموس، في وقتٍ يبدو فيه أن واشنطن تستسيغ الإخفاقات المتتالية لمحادثات التهدئة، وتحبّذها وتعتبرها فرصة سانحة لها. وجليّ أن الأميركيين قادرون على فرض وقف الحرب على تل أبيب، التي لم تكن لتستطيع المضيّ قدماً في عدوانها من دون الدعم التسليحي والسياسي والحقوقي الأميركي.
ورغم التوقعات التي تشير، عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية، إلى أن وقف إطلاق النار يبدو في المتناول، لكن الخطط المطروحة في هذا الإطار، بحسب مسؤولي حركة «حماس»، لا تعني وقفاً طويل الأمد للحرب، إذ تضع هذه الفرصة بتصرّف إسرائيل لإشعال فتيل الحرب مرّة أخرى.
ويبدو أن موضوع وقف إطلاق النار في غزة، تحوّل إلى ورقة رابحة في الانتخابات الرئاسية الأميركية؛ إذ يحرص الديموقراطيون على أن تسهم التهدئة، ولو لمدّة وجيزة وبشكل غير مؤثّر، في تحسين موقع وصورة المرشحة الديموقراطية للرئاسيات، كامالا هاريس، فيما سيعزّز وقف إطلاق النار المقترح، مصالح أميركا قصيرة الأمد في غرب آسيا، من حيث خفض مستوى التصعيد بين إيران والكيان الإسرائيلي.
وفيما يجب الأخذ في الحسبان أن إسرائيل هي من الناحية الجيوسياسية، حليفة أميركا في منطقة غرب آسيا، تجدر الإشارة إلى أنه بعد الثورة الإسلامية في إيران، وتحوّل سياسة طهران تجاه واشنطن في العقود الماضية، باتت السياسة الأميركية مبنيّة على ركائز عدّة، منها:
- دعم أمن إسرائيل وتعزيز تفوّقها النوعي في المنطقة.
- توسيع نطاق الوجود العسكري الأميركي في المنطقة.
- التحالف الإقليمي مع بعض الدول العربية، لا سيما السعودية بوصفها زعيمة العالم العربي.
لكن وعلى خلفية التنافس بين الولايات المتحدة والصين في غرب آسيا، وفي ضوء السياسة المتوازنة للعربية السعودية، باتت إسرائيل راهناً، الشريك الموثوق به بالنسبة إلى واشنطن. ولذلك، فهي تشكّل الركيزة الرئيسية للسياسة الأميركية في هذه المنطقة. وحاولت أميركا، خلال العامَين الماضيَين، الحفاظ على الركيزة الثالثة عبر تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية، ومنْح امتيازات وتنازلات للرياض. لكن عملية السابع من أكتوبر، والمطالب السياسية والأمنية للمملكة، وضعت أمام الأميركيين عقبات وتحديات كثيرة. وفي الوقت نفسه، أربك استئناف العلاقات بين طهران والرياض، التوازن الذي دفعت واشنطن أثماناً باهظة من أجل تثبيته خلال العقود المنصرمة.
وتسود هذه النظرة الغرب، بأن تراجع مستوى التصعيد بين إيران والسعودية، وبالتالي في عموم المنطقة، من شأنه أن يزيد الضغط الممنهج على إسرائيل، ما يعني أن الظروف ستمضي قدماً لمصلحة الفلسطينيين لإقرار حقوقهم في الأراضي المحتلة. وتقيّم واشنطن، كما تل أبيب، أيّ مبادرة سياسية واقتصادية بين دول محور المقاومة وخارجها بأنها تصبّ في خانة النظام الإقليمي ناقصاً أميركا. ولذلك، فإنهما، وقبل انفراج العلاقات بين طهران والرياض من جهة، والأخيرة وسائر البلدان العربية في المنطقة من جهة أخرى، ابتدعتا «اتفاقات أبراهام»، وبذلتا جهوداً، بالتوازي مع حرب غزة، للمضيّ قدماً في هذه المبادرة.
ويجب تقييم إستراتيجية الولايات المتحدة في غرب آسيا، ضمن إستراتيجيتها العامة في العالم والنظام العالمي المتحوّل، إذ يمكن اعتبار التوجهات السياسية الأميركية في الحرب الجارية في فلسطين، وتمدّدها الاستنزافي إلى لبنان وسوريا وإيران واليمن والعراق وحتى الأردن ومصر، أنها تأتي لمنفعة واشنطن من مختلف الجهات؛ إذ إن إضعاف محور المقاومة وجيران الأراضي الفلسطينية المحتلة، سيعني زيادة منطقة قوة وردع الكيان الإسرائيلي. ومن هذا المنطلق، ستتوافر الظروف أكثر لفرض تطبيع العلاقات بين إسرائيل ودول المنطقة، بما فيها السعودية.
ويمكن تقييم هذه الخطة، في مواجهة سياسة التوازن التي يتبعها حلفاء الولايات المتحدة السابقون مع الصين وزيادة نفوذ الأخيرة في غرب آسيا. ومن هنا، فإن هيمنة إسرائيل، بوصفها الحليف الإستراتيجي لأميركا، على المنطقة، سيكون أيضاً على حساب سائر اللاعبين من خارج المنطقة، بمن فيهم الصين باعتبارها أهم مستورد للطاقة من المنطقة. واضطرّت واشنطن، ومن أجل التحكّم في سرعة مسار النظام العالمي، إلى خفض مستوى التعارض مع الصين في شرق آسيا، لكي تؤتي الخطط الأميركية في هذه المنطقة أكلها. وفي الحقيقة، تحوّل غرب آسيا إلى منطقة للتنافس الجيواستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين ومنصة لهيمنة أميركا على شرق آسيا.
وعلى غرار مدة الحرب الباردة، تضطلع إسرائيل بدور مفتاحي في إرساء النظام الذي يتمحور حول الولايات المتحدة في منطقة غرب آسيا. وقد عملت واشنطن، خلال السنوات الأخيرة، على استكشاف إمكانات جديدة، لا سيما في الميادين الاقتصادية والدفاعية والأمنية، لدمج إسرائيل في المنطقة، وأيضاً مواجهة نفوذ الصين ومبادراتها هناك. وكانت «اتفاقات أبراهام» واحدة من تلك المبادرات السياسية - الأمنية. أمّا ممرّ «الهند - الشرق الأوسط - أوروبا» الذي قُدّم في مقابل مبادرة «الحزام والطريق» الصينية، فيمثّل منصة أخرى لدمج إسرائيل في قارتَي آسيا وأوروبا والتوحيد الجيوسياسي والأمني بين مناطق غرب آسيا وجنوبها، والغرب. لكن ومع عملية السابع من أكتوبر وإرساء ظروف أمنية في فلسطين المحتلة على حساب الكيان الصهيوني، تهمّشت هذه المبادرات بالكامل.
ولهذا السبب يمكن القول إن الأبعاد الواسعة للحراك العسكري الأميركي في حرب غزة، يُظهر أن واشنطن لا تعتبر إسرائيل واحدة من أهم ركائز السياسات الإقليمية للولايات المتحدة في غرب آسيا فحسب، بل ركيزة مصيرية، إذ ترى أن التنافس الجاري في المنطقة يشكّل جزءاً من صراعات القوة على الصعيد الدولي وتحوّل النظام العالمي. وهي تسعى عن طريق تعزيز إسرائيل دفاعياً وهجومياً، إلى الحفاظ على كيان شريكها الإستراتيجي في غرب آسيا، وأن تحول في ظل تعزيز الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، دون تبلور الترتيبات الإقليمية الجديدة لمصلحة القضية الفلسطينية.
وفي إطار هذا السيناريو، فإن أحد أهم أبعاد حرب غزة يتمثّل في الدعم الأميركي لإسرائيل، إذ يفضي إلى إطالة أمدها أو تحويلها إلى حرب استنزاف حتى الوصول إلى الصيغة السياسية - العسكرية المرجوة لفرض وقف لإطلاق النار على الفلسطينيين في غزة. بعبارة أدق، فإن أميركا وفي ظلّ الظروف السائدة، ليست مع سلام حقيقي في المنطقة، فيما تشكل حكومة نتنياهو العنصر الوحيد للمخطّطات العامة للولايات المتحدة، والذي سيحلّ محلّه عنصر آخر إنْ اقتضى الأمر.
* كاتبة إيرانية