اليوم غزة وغداً الضفة، بل اليوم غزة والضفة، وغداً ما تبقى من فلسطين المحتلة والأهداف واحدة، والأدوات ذاتها والسياقات والسيناريوهات والإخراجات متشابهة؛ لأن العدو واحد والضحية المستهدفة نفسها، هي الشعب الفلسطيني بحاضره ومستقبله وبكل فئاته. وما جاء على لسان وزير خارجية الكيان كاتس عقب الاجتياح الإسرائيلي، وما أُطلق عليه «حرب سلامة المستوطنين» يؤكد ذلك بقوله إن «العملية ليست محدودة، وإن ما جرى في غزة يجب تطبيقه في الضفة».
من الواضح لأي متابع إن هذه العملية تحمل في دلالاتها وتطوراتها أهدافاً عدوانية عديدة أبرزها: تغيير الوضع القائم في الضفة من مناطق مقسّمة (أ ـ ب ـ ج) إلى مناطق ذات سيطرة كاملة عسكرية وأمنية وإدارية إسرائيلية؛ ما يعني إعادة احتلال الضفة، واستئناف المشروع الصهيوني، بما يرغب ويخطط له اليمينيون المتطرفون. وضرب بنى المقاومة التحتية وخلاياها، التي باتت تشكل بعد طوفان الأقصى تهديداً حقيقياً لأمن واستقرار الكيان ومستوطنيه، وللحيلولة دون اتساع حدود المقاومة وعملياتها، ولإخماد إحدى أقوى جبهات الإسناد والدعم للمقاومة في غزة. بالإضافة إلى توجيه أنظار الشارع الإسرائيلي إلى جبهةٍ يعتبرها قادة الاحتلال ضعيفة، لتحقيق ما عجزوا عن تحقيقه في غزة من نصر أو صورة نصر، وتأكيد سياسة الردع الإسرائيلية، من خلال القيام بعمليات عسكرية محدودة هنا وهناك، بشكل مستمر؛ بغرض فرض الشروط الأمنية والعسكرية الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية.
وكذلك هي محاولة لرفع معنويات جيشهم المثقل بالجرحى والقتلى والمرضى النفسيين من جرّاء ضربات المقاومة النوعية في غزة. وإرضاء لتطلعات اليمين المتطرف الفاشي والمستوطنين لتوسيع الاستيطان، وترويع السكان الآمنين، ونشر الذعر بينهم بهدف ضرب جذوة المقاومة والتمرد على الاحتلال، وحماية المشروع الاستيطاني بالقضاء على التحدي الأكبر الذي يواجهه، وهو المقاومة.
ومن أهداف العملية أيضا، تعميق أزمات ومعاناة أهلنا في الضفة، خاصة في شمالها، وضرب وتخريب البنى التحتية والمرافق وجوانب الحياة، وبالتالي دفعهم لمغادرة منازلهم وترك أراضيهم، وتهجير أكبر عدد منهم، وإضعاف السلطة الفلسطينية في الضفة، وإحراجها بعدم قدرتها على حماية مواطنيها ومؤسساتها، وتعميق الشرخ بينها وبين فصائل المقاومة؛ ما يزيد من الانقسام، ويعطل أي مبادرة للوحدة الوطنية، ولربما كان الاحتلال يهدف إلى اختبار نوايا السلطة في المرحلة المقبلة، خاصةً بعد التصريحات المثيرة للجدل من قبل رئيس السلطة محمود عباس. استكمالاً لما بدأه الاحتلال في قطاع غزة من مجازر وتدمير واعتقال، وامتداداً لأهداف نتنياهو المعلنة بالقضاء على حركة المقاومة «حماس»، وإنهاء سلطتها، وإنهاء تأثيرها في الضفة، بالإضافة إلى تأكيد سياسة الاحتلال الفاشية القائمة على تهويد الأراضي الفلسطينية، والاعتداء على المقدسات، وإحياء مخططات الضم والاستيلاء على مزيدٍ من الأراضي، وتأكيد الطبيعة الاستيلائية الإجلائية الاستحلالية لحكومة نتنياهو وقادة الصهاينة. ومن أهداف الاحتلال أيضا ضرب رمزية المخيم الفلسطيني، لكونه الخزان الحقيقي للمقاومة المسلحة تمهيداً لتصفية قضية اللاجئين.
الأهداف واحدة، والأدوات ذاتها والسيناريوهات متشابهة؛ لأن العدو واحد والضحية المستهدفة نفسها، هي الشعب الفلسطيني بحاضره ومستقبله وبكل فئاته
كل هذا يجري وسط صمتٍ عربي وإسلامي ودولي على ما يحدث في غزة؛ ما شجع نتنياهو وقادة حربه إلى شن حربهم على الضفة، وهذا بدوره يدلّل على تجاوز «إسرائيل» كل القوانين والمواثيق والأعراف الدولية، ويشكل تجاوزاً فاضحاً لكل التحذيرات الدولية من توسيع الحرب على غزة إلى حرب إقليمية شاملة. كما يؤكد رفض «إسرائيل» المتكرر لأي مبادرة لوقف إطلاق النار وعقد صفقة تبادل الأسرى، والإمعان في تجاهل كل المبادرات التي تدعو إلى حل الدولتين، وتطبيق القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن والأمم المتحدة، بل عدم الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني أصلاً.
والجدير بالذكر، أن هذه الحملة العسكرية تأتي عقب إلغاء الكنيست الإسرائيلي لقانون فك الارتباط مع مدن شمال الضفة، واتخاذ قرارات بإنشاء مستوطنات جديدة؛ وهذا يتطلب تأمين الأرضية الأمنية المناسبة للمستوطنين وسلامتهم، كما ذكر آنفاً كاتس وزير خارجية الكيان. إن هذا الوضع المتفجر والمستمر لأكثر من أسبوع حتى الآن، وهذه المقاومة الضارية التي تتصدى ببسالة لقوات الاحتلال المدججة، وتمنعهم من تحقيق أهدافهم العدوانية؛ كل هذا ينذر بارتكاب الاحتلال المزيد من مجازر الإبادة الجماعية والتدمير في مدن ومخيمات الضفة. إن هذه التداعيات تتطلب وبشكلٍ عاجلٍ من السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية والقوى والفصائل الفلسطينية كافة:
ـ الإسراع في تشكيل قيادة وطنية موحدة، كما نص عليه بيان بكين الذي وقّعته الفصائل كافة، ووضع كل ما تم الاتفاق عليه موضع التنفيذ، من دون تأخير.
– تشكيل قيادة ميدانية عملياتية لقيادة مواجهة قوات الاحتلال الغازية، والتنسيق بين مختلف الفصائل، وإعلان النفير العام والدعوة إلى انتفاضة شعبية عارمة لرد الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني، بعد إعادة انعاشه عقب عملية طوفان الأقصى والتفاف الحاضنة الشعبية حول المقاومة، وزيادة الدعم الشعبي والدولي للقضية الفلسطينية، وتكذيب السردية الإسرائيلية.
– انضمام قوات الأمن الفلسطينية إلى إخوانهم في كتائب المقاومة لمواجهة العدوان.
– وقف كل أشكال التنسيق والتعاون الأمني مع الاحتلال.
– تعزيز صمود أهلنا في المناطق المستهدفة والمحاصرة، والعمل على حل مشكلاتها، وتأمين مستلزمات الحياة اليومية من طعام وماء ودواء، وهذا يتطلب تشكيل لجان طوارئ إغاثية.
– التحرك عربياً ودولياً في المحافل كافة للتدخل وإيقاف العدوان، وفضح ممارساته وأهدافه، وفرض الوبات المؤثرة والفاعلة التي تثنيه عن مواصلة حربه المجنونة.
ـ الطلب من الولايات المتحدة وقف كل أشكال الدعم والتأييد لدولة الكيان وتحميلها مسؤولية الاستمرار بالاعتداء على شعبنا، سواءً في غزة أو الضفة، وممارسة الإبادة الجماعية الممنهجة، والتدمير لجوانب الحياة الفلسطينية.
– التحرك لدى الدول العربية والصديقة لوقف كل أشكال التطبيع، وطرد السفراء الصهاينة من بلدانها، وسحب السفراء وقطع العلاقات مع الكيان.
على الرغم من كل هذه الآلة العسكرية التي تجتاح مدن ومخيمات الضفة، وعلى الرغم من كل هذا التدمير والترويع والتنكيل والقتل والإرهاب والاعتقال؛ فإن الأرض تشتعل من تحت أقدام الغزاة وآلياتهم، وتحولت هذه المدن والمخيمات إلى جبهاتٍ ومحاور قتال تشهد معارك ضارية يستبسل فيها المقاومون، ويطورون من أساليب وتكتيكات المواجهة، على الرغم من ضآلة العتاد والسلاح، واغتيال القادة الشهداء؛ لكنه الإيمان بشرعية نضالهم، وصدق انتمائهم وتمسكهم بأرضهم، وثباتهم على المبادئ، واستعدادهم للتضحية والشهادة؛ هو الذي يصنع الفارق في الميدان كما هو الحال في غزة.
كاتب فلسطيني