بعد «طوفان الأقصى»، خلطت الأوراق واختلفت حسابات إسرائيل: في الماضي كانت تتجنّب خوض غمار التوغّل البري في غزة، لم تكن تحبّذ الانخشراط في معارك طويلة، وإذ بنا اليوم نقترب من العام، وكان الكيان يهتزّ عندما يسقط قتيل واحد منه، لنكتشف أنه وبحسب الإعلام الإسرائيلي يوجد اليوم آلاف المعوقين، ورغم ذلك كله، يصرّ نتنياهو على أبعد من ذلك. فما الجديد إذاً؟أحد المتغيرات في الحرب المستمرة هي أنّه بعد تهشّم مرتكزات الأمن القومي للعدو (ردع، حسم الحرب سريعاً، ونقلها إلى أرض الآخر)، راح الكيان يؤسس نظرية على مرتكزات أخرى، أبرزها كسر كل ما سبق ذكره. رسالة إسرائيل هي أنه بعد مرحلة «الطوفان» سيكون هناك إسرائيل جديدة تأمل ارتداع الأطراف الأخرى. فنجد صانع القرار الإسرائيلي يحاول أن يفرض معادلة جديدة محورها الأساسي الرد على ضربات حزب الله في مناطق محرّمة. بصريح العبارة، يقول نتنياهو إنه أمام أي رد قوي من حزب الله، إسرائيل متجهة نحو ضرب العمق اللبناني المحظور منذ 2006.
في المقابل، أدخل حزب الله بعداً جديداً إلى جانب إسناده لغزة ومنعه من فرض العدو قوته على جنوب الليطاني، أساسه منع إسرائيل من الانتصار، وجوهره منعها من النجاح في معادلتها الجديدة. فحتى لو علم حزب الله أن إسرائيل سترد على الرد في العمق اللبناني، ورغم إطالة أمد المعركة، ستبقى المقاومة تصعّد تحت سقف مدروس لكسر إرادة الكيان. لأنه إذا استمر الإسرائيلي في هذه المعادلة، سيشكّل ذلك خطراً يمسّ مستقبل أمن المقاومة ولبنان.
عادة في حالات الترقب في الحروب، يزور قادة العسكر والسياسة المواقع التي طُرحت كساحة مواجهات وكانت آخرها قاعدة رامات ديفيد. كان المفترض من نتنياهو أن يأتي إلى منطقة خط المواجهة مع لبنان، إلا أنه اختار القاعدة الجوية التي تبعد 46 كلم عن الحدود اللبنانية، أي ما بعد حيفا. ومنذ مدة، وجّه رئيس الشاباك رونين بار رسالة إلى الوزراء والمسؤولين في الكيان أن كل شخص يريد أن يتنقّل، عليه أن يأخذ إذنه شخصياً. عندما لا يجرؤ رئيس الهرم أن يصل إلى الحدود المتاخمة للبنان، معنى ذلك أن الشاباك يعرف جيداً أن هناك خطرَ اكتشاف حزب الله وجود أي شخصية واستهدافها. الكيان الذي كان يجذب كل اليهود من الخارج بسبب أمنه وأمانه، أصبح رئيس وزرائه غير قادر أن يتنقّل أينما يريد. جوهر وجود المقاومة هو تحويل الكيان إلى منطقة غير آمنة، لذا تواجد نتنياهو بدل أن يعطي دليل قوة لشعبه، أعطى دليل ضعف.
خلال المدة الأخيرة، استطاع حزب الله أن يفرض الجولان ساحة مباحة للرد في سياق الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان. فعلى سبيل المثال، الذي يستطيع الوصول إلى كتسارين عاصمة الاستيطان في الجولان، يستطيع قصف كل المستوطنات الأخرى.
في المعركة، الردع يضيق ويتّسع بحسب مجريات الحرب، فلو لم يكن هناك قواعد استطاع حزب الله أن يفرضها، لكنّا رأينا استباحة للمدنيين في كل الأراضي اللبنانية من البقاع للجنوب لبيروت. نجح حزب الله في دفع إسرائيل عن لبنان في خطوات استباقية قامت على قاعدة منع العدو من الانتصار في غزة وحماية الردع وتعزيزه في مواجهة لبنان ومنعه من فرض أي وقائع تحاول أن تسلب من قدرات حزب الله في ما يتعلق بالحرب.
* صحافي