تضيق الذاكرة بأشخاص عاصروا يحيى السنوار في المعتقل، إمّا لكثرة تنقّلاته بين سجن وآخر، وإمّا بسبب وجودهم في أقسام وزنازين، غير الأقسام والزنازين التي كان يوجد فيها. إلا أنّ التجمّع في ساحة الشمس (الفورة) كافٍ، للتعرّف إلى شخصيته، بسبب التفاعلات بين نزلاء المعتقل، والرجل الذي تربّع اليوم على عرش رئاسة «التنظيم» الذي حطّم إسرائيل من ألفها إلى لائها، ورماها تتخبّط في ويلات جموحها، نحو القتل والإبادة، التي سترتدّ عليها يوماً ما، بعد أن يكبر جيل من بقي على قيد الحياة، تماماً كما كبر جيل السنوار.
الأسير بين الأسرى
ابن مخيم خانيونس، الذي حطّ رحاله موقوفاً في «قسم 11» في سجن عسقلان، بعد مرحلة من التحقيق بدت قصيرة نسبياً، ذلك أن قتله لأربعة عملاء للاحتلال، أمرٌ لا يستحقّ بالنسبة إلى أبي إبراهيم، أن «يصمد» أمامه وأن يتلقّى الكدمات لإخفائه. فقد فاخر بفعله أمام ضباط «الشاباك» خلال التحقيق معه. اعتراف لم يبعد عنه الصفعات، ذلك أنّ التعذيب في أقبية التحقيق في داخل السجون الإسرائيلية عقيدة تُمارس وقرار. وبعد صدور الحكم بسجنه أربعة مؤبدات و25 عاماً، لقتله العملاء، انتقل من «قسم 11» إلى الأقسام الداخلية في معتقل عسقلان.
وما إن دخل النزيل الجديد من الباب الكبير المطليّ باللون الأزرق عند زاوية الساحة، حتى هرول إلى الباب ممثّل «حماس» في عسقلان الشهيد إسماعيل أبو شنب. حفاوة الاستقبال تلك، دفعت ببقية الأسرى في «الفورة» للالتفات نحو عناق وترحيب أبو شنب الذي تأبّط الشاب، وقدّمه إلى مجموعة كانت تتّخذ مكانها تحت فيء شجرة وارفة، تجاور شجرة النخيل الشهيرة. وكان قائد «القسام» الشيخ صلاح شحادة يتوسّط المجموعة، وحوله أحمد غندور، وروحي مشتهى، وتوفيق أبو نعيم، ومروان عيسى، وأحمد الجعبري، وخليل الحية، وغيرهم.
بدا السنوار بين رفاقه كما لو أنه خرج إلى الحرّية لا داخلاً إلى المعتقل. فتحلّق حوله أيضاً أترابه من أبناء مخيم ومدينة خانيونس. هذا الأمر سهّل على السنوار الانخراط والتكيّف مع يوميّات المعتقل. فما كادت بضعة أشهر تمر، حتى تمكّن من نسج علاقات اجتماعية قوية مع مجموعة كبيرة من الأسرى، من لبنان، والضفة الغربية، والجولان، والقدس، ومناطق فلسطين الـ 48.
لاعب كرة الطاولة
ما إن تمضي الثواني على فتح باب الزنزانة في «غرفة 9» في «قسم ب»، حتى يصير أبو إبراهيم خارج الغرفة، يسير مسرعاً في الممرّ المحاذي للزنازين، يصل إلى الدرج، ويشرع في الهبوط عليه درجتين درجتين، الساحة على موعد مع مباراة نهائية في كرة الطاولة، فالأسرى يعمدون إلى إحياء المناسبات الوطنية، عبر تنظيم النشاطات المختلفة، ضمنها مباريات في الكرةِ الطائرة، والسلة، والتنس، والشطرنج. على المحك، يكمش السنوار باندفاعة لافتة، مضرب التنس، ويقوم باستعراض جهوزيته أمام طاولة التنس قرب جذع النخلة في الباحة. يضحك، يدعو رفاقه بصوت عالٍ: «تعال شجّعني». «خصمه» أيمن من رفح، لاعب التنس الأمهر، الذي حافظ طوال سنوات على تصدّره بطولة السجن. كان السنوار يصرّ على «هزيمة» أيمن، وهو يعرف جيّداً أنه أمام مباراة صعبة، غير أنّ استمراره بالتحدّي والتعامل مع المباراة على أنها فرصة متاحة بالحدّ الأعلى، وجولة تدريبية بالحدّ الأدنى، كل ذلك يكشف عن شخصية تقبل المغامرة، ما دامت الإمكانية قائمة. يعزّز من جمالية المنافسة، «انقسام» الأسرى بعد أن يدعو السنوار رفاقه «الفتحاويين» من المخيم، ومن زملائه في ثانوية خانيونس للبنين، ومن مقاعد الدراسة الجامعية في الجامعة الإسلامية في غزة. فيصير ابن «فتح» مؤيّداً لابن «حماس»، وابن «حماس» مؤيّداً لابن «فتح». تنتهي المباراة بفوز أيمن، يقدّم له أبو إبراهيم التهنئة، ثم يلتفت صوب الأسرى ضاحكاً مبتسماً ليسأل عن «الاحتفالية القادمة» طالباً من أيمن تحضير نفسه.
«نزّل الستارة يا فهد»
يتعيّن على الأسير اللبناني «نيرودا» (كاتب هذه المادة) أن يحفظ درسه جيداً، فأمامه منازلة ثقافية مع الشيخ صلاح شحادة، الذي أصرّ على استقطاب الفتى «عقائدياً» وجعله «يصوم ويصلّي». كان يقول له: «حرام هادي الذقن السوداء ما تكون ذقن مؤمن». طوال الأسبوعين من انشغال «نيرودا» في التحضير، كان السنوار كلّما التقاه وقت «الفورة»، يراه منهمكاً في القراءة والسؤال والنقاش، فيتقدّم نحوه بضحكته المعهودة، ويقول له: «إذا عاوز إشي أو ناقص عليك إشي حتى تصير متديّن قول لي». قبل أن يدفع بمروان عيسى لحثّ «نيرودا» زميل مروان في لعب «كرة السلة»، على التسليم المسبق بما سيقوله وما سيناقشه ويقنعه به الشيخ شحادة، خاصّة أن مروان كان «خطيب السجن». فيوم الجمعة كان الأسرى في السجن ينزلون إلى الساحة لإقامة صلاة الجمعة، وكان مروان يعتلي المنبر، ويتحدّث بلغة عربية فصيحة، وهي مسألة تضاف إلى تقاطعه وقربه من السنوار، الحائز هو الآخر على إجازة جامعية باللغة العربية.
كان في هذه المرحلة من قيادات الظلّ. شارك في الإشراف على وضع مطالب الأسرى
كان السنوار يقدّر مسبقاً نتيجة المنافسة بين «الشيخ» و«الفتى»، وهي خسارة «نيرودا» وبقاؤه شيوعياً، وقد تقبّلها السنوار بكلّ روح ديمقراطية. إلا أنه عندما نُقل إلى غرفته «شيوعي آخر» من «الجبهة الشعبية»، بسبب أعمال الصيانة في الغرفة، طلب أبو إبراهيم من «ضيفه الشيوعي» أن يتكيّف مع «الأعراف اليومية» لغرف «حماس». فأوكل إلى «الرفيق فهد» مهمّة التحكّم بالستارة، التي يضعها أسرى «حماس» على التلفاز، وإنزالها فوراً عند ظهور امرأة على الشاشة، حتى لو كانت مقدّمة نشرة الأخبار العبرية. كان فهد يمسك بالستارة، بينما كانت القناة الثانية العبرية تعرض نشرة الأخبار المسائية، وكان السنوار يقوم «بجلي أواني العشاء» في الغرفة، وهي مسألة دأب عليها، إذ غالباً ما كان يعمد إلى إنهاء تناوله طعامه قبل بقية زملائه، كي يقوم بـ«خدمة الجلي»، وهو أمر يتنافس الأسرى على القيام به. المهم، أنه وأثناء نشرة الأخبار «التهى» فهد بالحديث مع أحد زملائه، فطلّت المذيعة، فخرج صوت السنوار، بينما كان غارقاً في «الجلي»، وصرخ بقوّة «نزّل الستارة يا فهد».
الغاز المُسيّل للدموع واللحمة الحمراء
لا مكان لأسرى جدد في السجن، فعددهم فاق عدد الأسرّة. اتُّخذ القرار برفض استقبال أي أسير جديد. أصرّت إدارة السجن على زجّ المزيد من المعتقلين، حتى لو أدّى ذلك إلى صدام مع الأسرى. وهو ما حصل، إذ استقدمت قوّات كبيرة من حرس الحدود، وشرطة مصلحة السجون، إلى السجن، بعد اندلاع المواجهات مع الأسرى.
السنوار القادم من خلفية عسكرية، لم يكن قد خبر عن قرب الغازَ المُسيّل للدموع، فاستنشقه للمرّة الأولى في مواجهات عسقلان تلك. فأخذ درساً تطبيقياً من أسرى القدس والضفة الغربية في هذا النوع من المواجهات. رمى الصابون من فتحات الشبابيك المطلّة على باحة السجن. التزم البقاء في منتصف الغرفة، وضع منشفة مبلّلة بالماء على وجهه.
على الأثر، وبعد الانتهاء من المواجهة، بسبب صراخ المستوطنين في مدينة عسقلان الذين اشتكوا من رائحة الغاز، أقدمت إدارة المعتقل على نقل الصفّين الأوّل والثاني من قيادات الأسرى، واتخاذ سلسلة من الإجراءات التعسفية، ضمنها سحب العديد من إنجازات الأسرى، بينها التلفزيون و«ستارته».
مرّت أشهر عدّة على «الواقعة»، فتقرّر خوض الإضراب المفتوح عن الطعام، والذي شاركت فيه بتدرّج كل السجون والمعتقلات. وراوحت أيام الإضراب بين 10 أيام و18 يوماً (في عام 1992). عمدت إدارة السجون مرة ثانية إلى نقل الصفّ القيادي الأوّل إلى زنازين العزل. فتولّى الصفّ الثاني من الأسرى قيادة الإضراب، لكن هذه المرة بصورة سرّية. وقضت الخطّة أن يتولّى ممثّل المعتقل نقل المطالب. يحيى السنوار كان في هذه المرحلة من قيادات الظلّ. شارك في الإشراف على وضع مطالب الأسرى، التي تبدأ من تطبيق اتفاقية جنيف الرابعة، والاعتراف بالأسرى كأسرى حرب، وليس انتهاءً باستبدال اللحمة البيضاء باللحمة الحمراء. فقد قرأ أحد قيادات الأسرى أنّ اللحمة الحمراء تحوي سعرات حرارية أكثر من اللحمة البيضاء، علماً أنّ الأخيرة كانت أكبر حجماً، «بتشبّع أكثر» على حدّ قول أبي إبراهيم.
نفق عسقلان ومحاولة الفرار
مع ازدياد أعداد أسرى «حماس»، نُقلت مجموعة منهم إلى «غرفة 3» في «قسم أ» الذي يضمّ غرفاً للجبهتين «الشعبية» و«الديمقراطية» و«فتح». لم يأخذ شباب «حماس» كلّ الوقت حتى قرّروا حفر نفق داخل الغرفة، امتدّ لأكثر من 12 متراً داخل الأرض. كانوا طوال الليل يقومون بحفر النفق بالملعقة والسكين والشوكة. وفي ساعات النهار يقومون بتوضيب التراب المستخرج، بأكياس من القماش، صنعوها من الكنزات، ويدخلونها في النفق ثانية. البقية المتبقية من التراب يتمّ التخلّص منها عبر رميها في مجاري الصرف الصحّي. مع الوقت، تجمّع التراب، فأدّى إلى تسكيرها، الأمر الذي دفع بإدارة السجن للبحث عن مصدر التراب الأحمر.
جرت عملية مداهمة للسجن، وتم فحص البلاط في الغرفة بلاطة بلاطة، إلى أن تمّ اكتشاف العملية التي كانت السبب في نقل السنوار وبقيّة رفاقه من سجن عسقلان إلى سجن آخر - إلى محطّات نضالية أخرى.
السنوار «القائد العام»
لقد راكم خبرته في النضال، تماماً كما راكم خبرته في معرفة عقل سجّانه بعد تعمّقه باللغة العبرية. فنجح في قيادة الأسرى، حين أدار التفاوض من سجنه في بئر السبع، وانتزع حرّية 1027 أسيراً وأسيرة، في صفقة «وفاء الأحرار» عام 2011.
اليوم، جلس أبو إبراهيم على رأس الهرم الحزبي والسياسي والعسكري للتنظيم الذي آمن به. هذه الشخصية القويّة جدّاً، والديمقراطية، في كل شيء إلا في موضوع التنازل عن حقّ شعبه وأرضه في الحرّية. يمسك بالعديد من أوراق القوّة. لديه قرابة 115 أسيراً إسرائيلياً، ولديه كوكب يدور حول قطاعه، وأمامه جيش مهزوم يتخبّط في «رمال غزة»، لكيان مجرم لم يشبع من الدماء بعد، ولم يكتف بكل أعمال القتل والتدمير والإبادة، يهرب بذلك من مستنقع أزماته، لكنه لا يملك مثقال ذرّة من شجاعة وقوّة وبأس وعناد يحيى السنوار، الرجل لديه شعب، لا يملكه أي قائد في العالم، شعب صامد، صابر، قوي، مؤمن بالنصر والحرّية، مهما بلغت التضحيات.
كاتب وأسير لبناني محرّر
من سجون الاحتلال الإسرائيلي