في الحادي والعشرين من آب 2003 أطلقت طائرة أباتشي إسرائيلية خمسة صواريخ على سيارة عضو المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل أبو شنب، ما أسفر عن مقتله واثنين من مرافقيه. جاء اغتيال أبو شنب لينهي هدنة بين المقاومة في غزة وإسرائيل بشكل دراماتيكي غير متوقّع؛ فأبو شنب كان يُعرف بأنه الشخصية الأكثر اعتدالاً بين قيادات «حماس»، ولم تكن له علاقة تنظيمية بجهاز الحركة العسكري. تلت انهيار الهدنة سلسلة اغتيالات طاولت عدداً من قادة الصف القيادي الأول لحركة «حماس»، على رأسهم رئيس الحركة الشيخ أحمد ياسين، وبعدها بأقل من شهر رئيسها الجديد عبد العزيز الرنتيسي. وفي الأثناء، عملت إسرائيل على عزل ياسر عرفات سياسياً، ثم حصاره داخل مقرّه في رام الله حتى وفاته.كل ذلك جاء في سياق سياسة إسرائيلية جديدة أعطيت ضوءاً أخضرَ أميركياً بعد فشل مباحثات كامب ديفيد (2000)، بدأت تلك السياسة عملياً في آب من عام 2001 باغتيال الأمين العام لـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» أبو علي مصطفى، وقد هدفت -كما بيّنت التطورّات لاحقاً- إلى فرض أمر واقع بالحديد والنار، بشكل يقطع تماماً مع إمكانية تسوية سياسية تنتهي بكيان فلسطيني حتى وإن كان منقوص السيادة وعلى مساحة أقل من حدود 67. تلك السياسة كانت تتطلب، إضافة إلى ضرب الأجنحة العسكرية للمقاومة، ضربَ العقل السياسي الاستقلالي الفلسطيني، بتصفية رموزه، سواء أكان قتلاً أم أسراً، بغضّ النظر عن توجهاتهم الأيديولوجية أو حتى إن كان موقفهم مؤيّداً لعملية أوسلو كمروان البرغوثي على سبيل المثال. وعند فرضها الواقع الذي تريده تقوم بالتعامل مع الحالة السياسية التي تكيّفت مع هذا الواقع.
في النهاية، نجحت إسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة، أولاً في تمكين الأمر لقيادة فلسطينية في الضفة قابلة لأن تؤدّي دوراً وظيفياً تحت سقف الاحتلال كما «اعترف» الرئيس أبو مازن في خطاب ألقاه بتاريخ 28 كانون ثاني 2020 رداً على إعلان الرئيس الأميركي حينها دونالد ترامب عن ما عُرف بصفقة القرن، حيث قال «إنه سيتم البدء فوراً باتخاذ كل الإجراءات التي تتطلّب تغيير الدور الوظيفي للسلطة الوطنية؛ تنفيذاً لقرارات المجلسين المركزي والوطني».
كذلك في تهيئة الوضع لنشوء سلطة «حماس» في غزة، واستمرارها ضمن الحد الأدنى لشروط البقاء نتيجة الحصار شبه المطبق الذي فُرض على غزة بتعاون دولي، غربي وعربي.
اليوم، وبعد أكثر من عشرين عاماً على تلك الأحداث، وفي ظل حرب مستمرة منذ ما يقرب من عام، تنتهج إسرائيل السياسة نفسها؛ فمن تمّ اغتياله في طهران في الحادي والثلاثين من تموز ليس إسماعيل هنية ولا مفاوضات وقف إطلاق النار فقط، بل إمكانية تسوية للوضع في غزة مع عقل سياسي استقلالي فلسطيني.
كل ذلك جاء في سياق سياسة إسرائيلية جديدة أعطيت ضوءاً أخضرَ أميركياً بعد فشل مباحثات كامب ديفيد (2000)
لقد بات واضحاً بعد شهور طويلة من مفاوضات وقف إطلاق النار أو صفقة تبادل الأسرى كما تُعرف إسرائيلياً، التي تعدّدت جولاتها بين القاهرة والدوحة وباريس، أنها كانت حملة علاقات عامة للتعمية على الخيار الإسرائيلي الذي يبدو أنه اتُّخذ مبكراً بعد السابع من أكتوبر، بحرب طويلة الأمد، لا تنتهي بقرار أو اتفاق قاطع بوقف إطلاق النار، بل تنتقل من مرحلة إلى أخرى حسب الظروف الميدانية إلى أن تتحقق أهدافها السياسية، سواء المباشرة المعلنة وعلى رأسها إنهاء الكيان السلطوي لـ«حماس» في غزة، أو غير المباشرة وهي امتداد لأهداف سياسة إسرائيل بعد كامب ديفيد 2000، أي إنهاء إمكانية نشوء كيان سياسي فلسطيني مستقل بأي شكل وأي صيغة، حتى وإن كان معنوياً كمنظمة التحرير.
إنّ قراءة الواقع السياسي اليوم لا يجب أن تتم بمعزل عن مراجعة التجربة التاريخية القريبة للحقبة ماالممتدة منذ عام 2000، حيث الشروط السياسية الحاكمة ما زالت نفسها ولم تطرأ عليها تغييرات جوهرية. هذه التجربة تقول إنّ إسرائيل استطاعت تحقيق أهدافها، لأنها وجدت فلسطينياً من يتكيف مع الواقع الذي فرضته، وغلّب مصالحه السلطوية والحزبية على هدف الاستقلال الوطني، وفشل في بناء وحدة سياسية مصيرية. هذا الفشل كان عاملاً مؤسّساً لكل ما وصلت إليه القضية، وساهم في ترسّخ قناعة في السياسة الإسرائيلية بأنه يمكنها في كل مرحلة قتل العقل السياسي الفلسطيني المستقل لأنه سيأتي بعد ذلك من يرضخ ويتكيف مع الواقع الذي تفرضه آلتها العسكرية على الأرض.
من هنا، وفي هذه اللحظة، وتحت وطأة ثِقل استشهاد إسماعيل هنية، تبرز الضرورة الملحّة لتشكيل إطار تنفيذي يتابع تنفيذ إعلان بكين، مع وضع جدول زمني لعمله. تجب المبادرة لذلك من القوى الفلسطينية والشخصيات الوطنية خارج «فتح» و«حماس»، والضغط من قبلها لتحقيقه. فبالوحدة الفلسطينية المُمأسسة في منظمة التحرير، مع استمرار المقاومة على الأرض إلى جانب كل العوامل الخارجية المساعدة، يمكن فقط مجابهة هذه السياسة الإسرائيلية.
* كاتب فلسطيني