Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

ما بعد الرفض الإسرائيلي

56qZc.png
فلسطين اليوم//وكالات

في خريف 2023، طُرح على تطبيق «تشات جي بي تي» للذكاء الاصطناعي السؤال: «هل الفلسطينيّون يستحقّون العدالة؟»، فكان الجواب أنّ «العدالة بالنسبة إلى الفلسطينيين موضوع معقّد وخاضع للبحث». وعندما طُرح السؤال نفسه بشأن الإسرائيليّين، كان الجواب أنّ «الإسرائيليّين مثل كلّ الشعوب الأخرى يستحقّون العدالة والحماية لحقوقهم».إنّ المفارقة بين الإجابتين تُلقي ضوءاً كاشفاً على عُمق الانحياز المُسبق لإسرائيل في الذهنيّة الغربيّة؛ وليس الذكاء الاصطناعي سوى امتداد للبُنية الثقافيّة اليهوديّة - المسيحيّة، وللتأثير الذي تمارسه في تكوين اتجاهات الرأي العام.
هذه المفارقة نراها تتعمّق في أوروبا والولايات المتحدة الأميركيّة نتيجة عقود طويلة من التعرّض للسرديّة الصهيونيّة التي أسهمت أفلام هوليود في إضفاء طابعٍ ملحميّ عليها. غير أنّ مرحلة ما بعد حرب حزيران 1967 وتوسّع الاحتلال الإسرائيلي إلى الضفّة الغربيّة وهضبة الجولان وشبه جزيرة سيناء، شهدت تحوّلاً من التركيز على إعلاء شأن أسطورة إسرائيل «الرائدة والمحاصرة»، إلى محاولة تبرير الاحتلال والاستيطان الكولونيالي عبر الادّعاء بأنّ الأراضي العربيّة «قد حُرّرت» ولم تتعرّض للغزو والاحتلال.
ومع ذلك، فإنّ عمليّة الاحتلال والاستيطان الكولونيالي ظلّت مسألة مركزيّة في الصراع منذ النكبة 1948، وتفضح خِدعة الكيْل بمكيالَين أو ازدواجيّة المعايير عندما يتعلّق الأمر بتغطية «الخطيئة الأصليّة» إسرائيل. والواقع أنه عِوض اعتبار الاحتلال غير شرعي والاستيطان غير قانوني حسب القانون الدولي، فإنّ الديبلوماسيّة الأميركية عملت لفرض فكرة أن الأراضي العربيّة المحتلّة صارت عملة مقايضة لإسرائيل التي تجد نفسها غير مُجبرة قَطّ على الانسحاب منها، بل يمكنها خلافاً لذلك الرهان على الحصول على تنازلات أساسيّة في مقابل انسحاب محتمل. إنّه مبدأ «الأرض في مقابل السلام» الذي يُعتبر محور ما يُسمّى عمليّة السلام العربيّة - الإسرائيليّة، ولكنّه انقلب إلى «السلام في مقابل السلام» في الشقّ الفلسطيني من جرّاء رفض إسرائيل، اعتباراً من عام 2005 واحتواء عمليّة أوسلو، أيّ تنازل عن الأرض المحتلة وسْطَ التمسّك بسياسة الأمر الواقع الاستيطاني لابتلاع كلّ فلسطين ومنع قيام الدولة الفلسطينيّة المستقلّة.
في الحقيقة، إنّ هذا الرفض الإسرائيلي الذي تعزّز أخيراً بقانونٍ في الكنيست ضدّ الدولة الفلسطينيّة، على خلفيّة حرب الإبادة الإسرائيليّة على الشعب الفلسطيني، يلاقي منذ عقدَين تشجيعاً حيويّاً من الإدارة الأميركيّة وتأييداً مبطّناً من الاتحاد الأوروبي، وذلك في ظلّ حملة بروباغاندا تتّهم الفلسطينيّين بشنّ حرب وجوديّة ضدّ إسرائيل تحت غطاء مقاومة الاحتلال والاستيطان. واللافت للانتباه هنا هو السياق الجيوسياسي الدولي المتّصل بـ«الحرب الشاملة ضدّ الإرهاب» التي هندستها الولايات المتحدة غداة هجوم أيلول 2001 ضدّ الإرهاب بوصفه عدوّاً إستراتيجيّاً يضمّ «القاعدة» والعراق وأفغانستان والفلسطينيين.
ولم يلبث نهج الإيذاء الإسرائيلي الذي يستهدف الجوهر الإنساني للشعب الفلسطيني، أن اجتاز عتَبَة جديدة تتّصف بالعدميّة مع إلصاق تهمة النازيّة بالفلسطينيّين والادّعاء بأنّهم هم الذين أوحوا لهتلر بفكرة إبادة اليهود أو المحرقة.
ولعلّ التخيّلات بإمكان استمرار النكران لوجود شعب فلسطيني يطالب بالعدالة، انتعشت قليلاً مع عمليات التطبيع العربيّة المتأخّرة والأوهام التي أثارتها «صفقة القرن» في شأن «التسوية النهائيّة» للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، فضلاً عن حملة التضليل الإعلاميّة والفكريّة التي حاولت التصوير أنّ مفهوم الصراع في المنطقة قد تبدّل، وأن القضيّة الفلسطينيّة سقطت عن الأجندة الإقليميّة - الدوليّة لمصلحة الأزمة النوويّة بين إيران والعالم الغربي.
ولأنّ هناك دوماً جيل فلسطيني جديد من المقاومين يمكنه قلب السِّحر على السَّاحر في الصورة المتخيَّلة لـ«القلعة البيضاء» الصهيونيّة محور الأمن الإسرائيلي، فقد أخذت قيادة المقاومة الفلسطينيّة في غزّة على عاتقها العمل لتفكيك القلعة من الداخل في خضمّ هبّة الأقصى المدعومة بصواريخ غزّة وظهور حالة جديدة من الوعي السياسي في صفوف جيل الشباب من الفلسطينيّين في الأراضي المحتلة عام 1948، وانكسار حاجز الخوف أمام الآلة الصهيونية كما ظَهَرَ في التحرّكات التي شهدتها الرملة واللّد وعكّا وحيفا والناصرة وغيرها من البلدات والنواحي في الجليل والمثلث والساحل.
وتفترض المسؤوليّة الإستراتيجيّة إدراك أنّ العامل الأساسيّ في تفكّك القلعة الصهيونية يكمن في الداخل، وتحديداً في مقاربة تناقضات المجتمع الإسرائيلي الآخذة في التفاقم، وخاصّة التناقض حول منظومة صنع القرار السياسي، وأنّ التقاط أهميّة هذا العامل الإسرائيلي وفَهْم أبعاد تناقضات المجتمع الإسرائيلي، هما مفتاح الانتقال إلى الهجوم الدفاعي لِلَجْم التوحّش الصهيوني، وهذا ما تحقّق في عمليّة «طوفان الأقصى» على أساس أنّ القوّة الهجوميّة وتأكيد القوّة يوفّران القدرة على تمهيد الطريق لفرض التراجع على إسرائيل. ويُنسب إلى القائدَين يحيى السنوار ومحمد الضيف تولّي المبادرة في عمليّة التجديد الإستراتيجيّة هذه، لحركة «حماس» في قطاع غزة، خصوصاً اعتماد تدابير هجوميّة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي والحصار وربط غزّة بالطابع المركزي للكفاح الفلسطيني.
انطلاقاً من عام 2021 حرصت حركة «حماس»، بقيادة يحيى السنوار ومحمد الضيف، على العمل المشترك مع الفصائل الأخرى للمقاومة، ولا سيّما منها حركة «الجهاد» و«الجبهة الشعبيّة»، لمواجهة التهديد الإسرائيلي المتزايد للمسجد الأقصى في القدس. وفي هذا الإطار، جاء هجوم 7 أكتوبر تطبيقاً لإحياء الكفاح المسلّح واعتماد مفهوم القوّة الهجومية في الصراع مع إسرائيل ونقل الحرب إلى داخل فلسطين المحتلّة. وهنا يُسجّل للسنوار أنه وضع إسرائيل أمام خيارَين: الأوّل، إرغامها على تطبيق القانون والقرارات الدوليّة في شأن الانسحاب من الضفّة الغربيّة والقدس وتفكيك المستوطنات. والخيار الثاني، العمل لجعل إسرائيل في حالة صِدام مع الشرعيّة الدوليّة وفرض العزلة عليها وإسقاط محاولات اندماجها بالمنطقة العربية.
* كاتب وصحافي لبناني