يحلو للبعض أن يصف رد الفعل الإسرائيلي من تشكيل الحكومة الفلسطينية مؤخراً، بالهستيريا والهذيان، وأن "إسرائيل" وجدت نفسها إلى الحائط لا تدري ماذا تفعل أو كيف ستتصرف إثر بدايات اتخاذ خطوات جدية نحو المصالحة الفلسطينية،
وأعتقد أن في ذلك الكثير من تبسيط الأمور، ذلك أن "إسرائيل" لم تصب بحالة مفاجئة جراء ذلك، وعلى العكس تفاجأت حكومة نتنياهو أكثر من موقف إدارة أوباما من المصالحة الفلسطينية أكثر مما هو الأمر عليه إزاء المصالحة ذاتها بين حركتي حماس وفتح، وما اتخذه "الكابينت الإسرائيلي" من إجراءات إزاء المصالحة، هي ذات الخطوات التي اتخذتها في السابق كلما أرادت الانتقام من أي موقف فلسطيني اعتبرته "إسرائيل" يشكل خطراً ولو محدوداً عليها، اوقفت "إسرائيل" أكثر من مرة تسديد المستحقات الجمركية كما سحبت أكثر من مرة بطاقات الشخصيات الهامة، كما منعت مراراً تصاريح الانتقال من الضفة إلى غزة وبالعكس، وحتى مناقشة "الكابينت" إمكانية ضم كتل استيطانية في الضفة الغربية مؤخراً، لم يكن للمرة الأولى كما أوردت الصحافة العبرية، خاصة أن "الكابينت" فوض "وزير الأمن الإسرائيلي" موشيه يعالون، رئاسة الطاقم الخاص ببحث ضم أجزاء من الضفة، ذلك أن "يعالون" نفسه اعترض وما زال على مثل هذا الضم، خاصة في ظل "هذا التوقيت بالذات"!!
"إسرائيل" "مغتاظة" من سرعة تطبيق الخطوات الأولى نحو المصالحة الفلسطينية من خلال التغلب على الإشكاليات التي رافقت تشكيل الحكومة، لأن في ذلك إشارة إلى أن عملية المصالحة ستمضي قدماً، رغم كل المعيقات والإشكالات المرافقة لهذه العملية الصعبة والمعقدة والمتمثلة في ملفات الانقسام لسبع سنوات، ثم خلق أمر واقع جديد على كافة المستويات، فقد راهنت إدارة نتنياهو على أن الأمر لن يمر بهذه السرعة، ولا بهذا القدر من التوافق بين الجانبين، فتح وحماس، لتلافي المشكلات التي حدثت ويمكن أن تحدث إزاء هذه الملفات رغم حساسية وتعقيد معظم نقاط التصادم والخلاف، و"إسرائيل" كانت تراهن على "الوقت" حتى تصل عملية المصالحة إلى نقطة افتراق جديدة، تعيد الانقسام إلى ما كان عليه، وربما أكثر خدمة لها، بعد فقدان الأمل تماماً في أي عملية إصلاح قادمة لإنهاء الانقسام.
ومن الملاحظ أن "المصالحة" تسببت في مواجهة معلنة بين "إسرائيل" والولايات المتحدة، ذلك أن حكومة نتنياهو كانت تعتقد أن الموقف الأميركي سيتحدد بعد دراسة مستفيضة تعقب لقاء، ذكر ولم يؤكد أنه سيعقد، بين جون كيري وأبو مازن اليوم الأربعاء في عمان، لكن الأمر كان على خلاف ذلك، إذ أن واشنطن سارعت من خلال الناطقة باسم الخارجية الأميركية "جنيفر سكاي" لإعلان موقف يشير إلى أن أميركا تعتزم "العمل مع حكومة الوحدة الفلسطينية الجديدة وستواصل تقديم المساعدة للسلطة الفلسطينية مع مراقبة سياستها" وهذه إشارة واضحة إلى أن واشنطن باتت مقتنعة بأن الحكومة الجديدة ستعتمد سياسة الرئيس أبو مازن ـ ككل الحكومات السابقة ـ وأن لا جديد في سياق سياسة القيادة الفلسطينية، خاصة في مجال التسوية السياسية، لكن الموقف الأميركي هذا، لا بد من أنه، أخذ بالاعتبار أن "إسرائيل" هي التي فرضت فشل الجهود الأميركية حول العملية التفاوضية، وهو الأمر الذي سبق وأن ناقشت الإشارات المعلنة من قبل واشنطن حول تحميل "إسرائيل" مسؤولية الفشل الأميركي في إدارة العملية السياسية على الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
إن قراءة الموقف الإسرائيلي من عملية المصالحة لا يجب أن يخضع فقط لالتقاط الإشارات من خلال التصريحات، رغم أهمية ذلك، إذ ان ما يعبّر عن حقيقة هذا الموقف يرتبط بكيفية رؤية المصالح والمخاطر إزاء كل موقف، وعليه يمكن القول إن "إسرائيل" استفادت كثيراً من الانقسام الفلسطيني، سياسياً وأمنياً، سواء لجهة الادعاء عدم وجود شريك فلسطيني أو باستمرار التنسيق الأمني في الضفة الغربية، وهدنة واقعية في قطاع غزة، لكن "إسرائيل" باتت تدرك أن المصالحة قادمة مهما كانت الصعاب والعقبات وعليها أن تحول ودون أن يشكل ذلك خطراً عليها، لذلك، ومن خلال التصريحات والإجراءات، تضغط باتجاه تأكيد الجانب الفلسطيني، في ضوء المصالحة، وبحيث تؤخذ المصالح الإسرائيلية بالاعتبار.
"إسرائيل" تدرك أن المجتمع الدولي، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تحديداً، يقف إلى جانب المصالحة الوطنية الفلسطينية، و"إسرائيل" بموقفها المعارض هذا، إنما تضع نفسها من جديد أمام حصار سياسي لا تستطيع معه الاستمرار من دون تحميلها مسؤولية استمرار الاحتلال وإفشال العملية السياسية التفاوضية. "إسرائيل" استثمرت الانقسام، وهي على وشك استثمار المصالحة، لكن ذلك يتطلب المزيد من الضغوط والإجراءات العقابية والانتقامية، بغرض استمرار ضمان مصالحها السياسية والأمنية في ظل المصالحة الفلسطينية، لذلك، لا نرى في الموقف الإسرائيلي على المستوى الاستراتيجي سوى السعي لتحسين الاستثمار الإسرائيلي من هذه المصالحة، تحت الضغوط المتوالية، وستجد "إسرائيل" في نهاية الأمر، تتعاطى مع متطلبات هذا الجديد، وهي تحسن دائماً، التعاطي مع مثل هذه المتغيرات!!