"إسرائيل" بعد السابع من أكتوبر ومع استمرار الحرب في شهرها التاسع باتت تعيش واقعاً جديداً، عنوانه "بداية انكسار الصهيونية"، والذي بدأ فعلاً بعد أن نجحت "طوفان الأقصى" في ضرب إرادة البقاء في العقل الإسرائيلي.
ملاحظ وبشكل لافت خلال معركة "طوفان الأقصى" إصرار قادة الاحتلال الإسرائيلي مع كل تصريح سياسي أو ظهور إعلامي التركيز على أن "إسرائيل" تخوض حرباً وجودية بالوكالة في قطاع غزة، وأنها تقاتل ليس دفاعاً عن "إسرائيل" فحسب، وإنما من أجل صورة الغرب أجمع ومستقبله.
بروباغاندا الحرب الوجودية التي يستخدمها قادة الاحتلال تعكس حالة من القلق الكبير تسيطر على العقل الإسرائيلي من العودة والحديث مجدداً عن "لعنة العقد الثامن" التي دار الحديث عنها قبل سنوات، ثم تحوّلت إلى كابوس حقيقي بعد معركة "طوفان الأقصى"، كابوس بات يؤرق "إسرائيل" أكثر من أي وقت مضى.
اعتمدت "إسرائيل" سردية واحدة، منذ بداية الحرب على قطاع غزة، وهي أنها تقاتل باسم التاريخ والحضارة، بل وتقف على مفترق طرق لضمان وجودها ويجب أن تحقق النصر المطلق على حماس وحزب الله، وعليها "الدفاع" عن نفسها في هذه الحرب.
تقاتل "إسرائيل" من أجل البقاء، هذه حقيقة يعلمها نتنياهو وغيره من قادة "الصهيونية الدينية" الذين أدركوا معنى هزيمة السابع من أكتوبر، وأن بقاءها مرهون بما وعدت به مستوطنيها أن تكون "أرض الميعاد والديمقراطية والأمن والرخاء الاقتصادي"، فأصبحت لعنة العقد الثامن تطاردهم في كل لحظة بفعل فشلهم في الحرب المستمرة على مدار تسعة أشهر من دون تحقيق أهداف الحرب، حقيقة ناصعة تسيطر على عقل كل مستوطن إسرائيلي أكان عادياً أو رسمياً، حتى جعلت كثيراً من الحاخامات الإسرائيلية يصرّحون مؤخراً بالقول، إن "نتنياهو سيكون آخر رئيس حكومة في إسرائيل"، وغيرهم كثيرون أكدوا في مواقف وتصريحات في هذا الصدد، أن العدّ التنازلي لمستقبل "إسرائيل" قد بدأ فعلاً.
أبرز ما جاء في هذا السياق تصريح جاء على لسان نتنياهو شخصياً قال فيه: "سنجتهد لضمان أن تعمر إسرائيل 100 عام لأنه لم يسبق لدولة يهودية بلوغ 80 عاماً".
وأكثر ما استوقفني جملة تصريحات حديثة في هذا السياق أبرزها ما كتبه ألون مزراحي مؤخراً عن "مستقبل إسرائيل" بعد ثمانية أشهر من الحرب على قطاع غزة، والذي يعكس درجة من الوعي والإدراك لدى النخبة السياسية في "إسرائيل" لما يجري، فقال: "مشروع إسرائيل انتهى، إسرائيل لن تنجو من هذا كله، لن تعيش يوماً بسلام، وربما لن تستمر بعد نتنياهو، إسرائيل ليست قوية وعندما تقاتل تقاتل من أجل الامتياز والتفوق، هي ليست كالفلسطيني الذي يقاتل من أجل الكرامة".
سلسلة من الكتابات قديماً وحديثاً صدرت في هذا الصدد، فقد علّق الكاتب اليهودي الأميركي توماس فريدمان المعروف بانحيازه التام إلى الاحتلال قائلاً: "إسرائيل التي عرفناها إلى زوال، وهي اليوم تواجه خطراً وجودياً".
أما بيني غانتس، عضو مجلس الحرب المستقيل، فقد صرّح في وقت سابق وقال: "سيطرة الفلسطينيين على إسرائيل في المستقبل ليست بعيدة عن الواقع، وأن إسرائيل ستتقلص خلال السنوات المقبلة لتصبح مستوطنتي غديرا والخضيرة"، أما جدعون ليفي وهو صحفي إسرائيلي معروف فقال: "لن يستطيع أحد وقف عملية التدمير الذاتي الداخلي الإسرائيلي، فمرض إسرائيل السرطاني قد بلغ مراحله الأخيرة ولا سبيل لعلاجه".
فيما صرح إيهود باراك، رئيس وزراء الاحتلال الأسبق، فقال: "نخشى أن تنزل بإسرائيل لعنة العقد الثامن التي أصابت دولاً يهودية سابقة أو دولة الحشمونائيم"، فيما صرّح يوفال ديسكين، رئيس جهاز الشباك السابق قائلاً: "إسرائيل لن تبقى إلى الجيل القادم"، أما المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس فسُجّل له تصريح سياسي سابق قال فيه: "إن إسرائيل مكان ستغيب شمسه وسيشهد انحلالاً أو غوصاً في الوحل، وخلال سنوات، سينتصر العرب والمسلمون، ويكون اليهود أقلية في هذه الأرض إما مطاردين أو مقتولين"، أما الصحفي الإسرائيلي عكيفا الدار فعلق مؤخراً: "إن نتنياهو وبطريقة إدارته وأسلوبه السياسي سيؤدي إلى سقوط الصهيونية".
أكثر ما يؤرق "إسرائيل" إزاء الحال التي وصلت إليها، وعبّر عنه قادة سياسيون رسميون وغير رسميين حاليين وسابقين، وبعد أن استطاعت المقاومة الفلسطينية في غزة إنهاك "جيش" الاحتلال الإسرائيلي وإرباكه وهزيمته عسكرياً ونفسياً على مدار تسعة أشهر، هو اندلاع حرب شاملة مع حزب الله تتحقق فيها لعنة العقد الثامن واقعاً عملياً، لما تشكله المقاومة الإسلامية اللبنانية من تهديد استراتيجي في ظل تصاعد نطاق المواجهة على الجبهة الشمالية، ففي نظر كثير من المراقبين إن الأسوأ لم يأت بعد، رغم هول كل ما شاهدناه.
"إسرائيل" بعد السابع من أكتوبر ومع استمرار الحرب في شهرها التاسع باتت تعيش واقعاً جديداً، عنوانه "بداية انكسار الصهيونية" قد بدأ فعلاً بعد أن نجحت "طوفان الأقصى" في ضرب إرادة البقاء في العقل الإسرائيلي، وكأحد أهم تداعيات الحرب المستمرة في "إسرائيل" وتأثيراتها، تعود أسهم ظاهرة الهجرة المعاكسة وانعدام الثقة في "جيش" الاحتلال من جديد، فقد كشف مؤخراً عن أكثر من نصف مليون مستوطن إسرائيلي غادروا "إسرائيل" منذ السابع من أكتوبر وحتى نيسان/أبريل من العام الجاري، فيما سجلت آخر استطلاعات الرأي الحديثة أن 15% من المستوطنين يفكرون في مغادرة "إسرائيل" من دون رجعة، وهذا يعكس حال التفكك الداخلي الذي بدأ يتغلغل من جديد في الكيان الإسرائيلي، اجتماعياً، اقتصاديا وسياسياً، نتيجة فقدان الأمن الشخصي وفشل حكومة نتنياهو في توفير ما وعدت به ناخبيها.
ولعل الكاتب اليهودي في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية آري شيبيت لخص المشهد في "إسرائيل" فكتب حديثاً: "لا طعم للعيش في هذه البلاد ولا الكتابة في هآرتس، يجب توديع الأصدقاء والانتقال إلى العيش في فرانسيسكو أو برلين أو باريس، يجب النظر بهدوء ومشاهدة دولة إسرائيل وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة".
التصريحات الحديثة التي أطلقها نفتالي بينيت كانت أشبه بحال الاستجداء، عندما وجّه حديثه إلى المستوطنين فقال: "لا تغادروا إسرائيل، نمرّ بأصعب فترة، تراجع في الحرب، مقاطعة دولية، ضرر كبير للردع، 120 أسيراً إسرائيلياً لدى حماس، فقدان السيطرة على الاقتصاد والعجز، نحن عالقون في الحفرة، وأكثر شيء يقلقني هو حديث المستوطنين عن الرحيل إلى الخارج بلا عودة".
ثمة تداعيات مهمّة تسجل في سياق قراءة واقع "إسرائيل" بعد "طوفان الأقصى"، كشف عنها معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي حديثاً، والذي أكد أن "شرعية إسرائيل" تآكلت بشكل كبير خلال الأشهر القليلة الماضية وهي تعيش العزلة، وأصبحت متصارعة مع نفسها، ناهيك بتدهور مكانتها الدولية بشكل خطير وتداعيات ذلك على كل المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وعدم قدرة "إسرائيل" على الاستمرار في الحرب بعد المساس بالأمن القومي.
تسجل المقاومتان الفلسطينية واللبنانية إنجازات استراتيجية في معادلات الصراع القائمة، ولعل أهم ما يمكن تسجيله هو النجاح في انتزاع عنصر المفاجأة من "إسرائيل"، سواء مع قطاع غزة أو حتى على الجبهة الشمالية الملتهبة، والتي شكلت جبهة إسناد حقيقية للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.
تشير كل التقديرات أن حرباً مع حزب الله، ستؤدي إلى رحيل جماعي لما تبقى من الطبقة المنتجة في "إسرائيل"، في وقت تعيش حال إنهاك غير مسبوقة على مستويات عديدة، كان آخرها رفض أكثر من 900 من الضباط استكمال الخدمة العسكرية، ومغادرة رؤوس الأموال ورجال الأعمال وغيرهم من الطبقات المهمة.
من ناحية أخرى، عهد التفوّق العسكري والاستراتيجي الذي دعمته أميركا قد انتهى، وبداية ترنح "إسرائيل" من الداخل بدأ فعلياً وهي تعيش في حال من التآكل، وهذا مرتبط بالترنح الأميركي العاجز عن حماية خط دفاعها الأول في المنطقة، وبالتالي عودة الحديث عن "إسرائيل" كقوة إقليمية أصبح موضوع شك، وصورتها كـ"دولة" قوية عسكرياً بدأت تتلاشى.
وهذا ما ذهبت إليه آخر دراسة أعدّها حديثاً معهد "دراسات الأمن القومي" الإسرائيلي في جامعة "تل أبيب" والتي حذّرت بشدة من دخول "إسرائيل" في مواجهة شاملة مع حزب الله، ورأت أهمية التوصل إلى وقف إطلاق نار طويل الأمد في قطاع غزة، وإبرام صفقة تبادل للأسرى وهو الأمر الذي سيتيح عودة الهدوء على الجبهة الشمالية والتوصل إلى تسوية سياسية مع حزب الله.
واقع يمكن الاستنتاج منه أن أمام "إسرائيل" خيارين لا ثالث لهما؛ إما أن تضحي بنفسها لإنقاذ نتنياهو، أو أن تضحي بنتنياهو لإنقاذ نفسها من انهيار استراتيجي قادم لا محالة، فإن سلكت مسار استمرار الحرب وهي لا تقدر الصمود في حرب استنزاف طويلة فستكون بانتظارها فاتورة خسائر عالية وباهظة يجب أن تدفعها، وإن توقفت ستخرج مهزومة.
أما إذا أقدمت على مغامرة جديدة بفتح حرب شاملة مع حزب الله في لبنان فستكون قد حفرت قبرها بيدها، الجبهة الشمالية لن تكون نزهة وستجعل من حياة الإسرائيلي جحيما أكبر مما هي عليه الآن، وستؤدي إلى انكسارها في هذه المواجهة إلى الأبد.
خيارات "إسرائيل" باتت تضيق مع كل يوم يمر من أيام الحرب وليس أمامها الا التسليم بالهزيمة والفشل والذهاب إلى وقف إطلاق نار دائم وصفقة تدفع ثمنها كما يجب أن تكون.