إنّ حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية في قطاع غزة ليست ناشئة حصراً مِن طبيعة المشروع الصهيوني وصدمة عمليّة «طوفان الأقصى»، بل أيضاً هي مِن عوارض المرحلة الانتقالية التي يمرّ بها النظام الدولي. يساعد فحصُ هذه المرحلة الانتقالية في تقدير مآلات الحرب الحالية بيْن محور المقاومة وكيان العدوّ في فلسطين المحتلّة وجبهات المساندة، ونتائجها المتمادية. في ما يلي، إيجازٌ مكثّف لمعالم هذه المرحلة وخصوصياتها: 1. يمرّ النظام الدولي بمرحلةٍ انتقالية ما بعد غربية، فالعالم الذي استحكمتْ به القوى الغربية منذ القرن التاسع عشر يصير أكثر توازناً مع انزياح مراكز القوّة نحوَ آسيا وعالم الجنوب عموماً. مِن الصعب الجزم بنتائج المرحلة الانتقالية ولا بأنّ الغرب سيكون عاجزاً عن استعادة المبادرة، ذلك أنّ الغرب كان قد نجح سابقاً في تصحيح ذاته واستعادة المبادرة.
2. شهدت نهاية الحرب العالمية الثانية انتقالَ مركز قوّة النظام العالمي مِن أوروبا نحوَ أميركا في ظلّ ولادة ثنائيةٍ قامت على التنافس والصراع بيْن هذه الأخيرة والاتّحاد السوفياتي. وقد كرّست نهاية الحرب الباردة انتصارَ الليبرالية المعولمة الذي اعتبره البعض «نهاية التاريخ» وذلك في مقابل مَن نبّه مِن كون الأحادية مجرّد لحظةٍ عابرة.
3. واجهت الأحادية الأميركية عدّة عقباتٍ جوهرية تمثّلت في تسارع الصعود الصيني وعودة روسيا إلى مسار استعادة توازنها (قبْل دخولها في الحرب الأوكرانية) ونجاح إيران وحلفائها في استنزاف الولايات المتحدة في غرب آسيا ونهوض قوى إقليمية طامحة حول العالم طالما تجاهلتْ واشنطن مصالحها الحيوية. وقد استفزّت واشنطن كلّ هؤلاء بالتوظيف المتعسّف لقواعد النظام الدولي عبْر انتهاك السيادة الوطنية والتدخّل بالعنف والدمقرطة واللبرلة وحملات المعلومات.
4. منذ عام 2008، عام الأزمة المالية العالمية، تكرّست فكرة نهاية لحظة الأحادية وبدأتْ تبرز وقائع تؤكّد «صعود البقيّة» أي القوى التاريخية غيْر الغربية وفق مؤشّراتٍ متفاوتة في الاقتصاد والتكنولوجيا والديموغرافيا والقدرة على الردع العسكري. ويتحصّن هذا الصعود بإحياء الخصوصيات والهويات الثقافية وفق عناصر قومية ودينية ومحلية.
5. تواجهُ الليبرالية والديموقراطية الغربية المعاصرة تحدّيات ومشاكل متلاحقة بسبب طغيان مصالح رأس المال وقوى السوق عليها. ففي مقابل اهتمام الليبرالية بالحرّيات الفرديّة والعولمة، فإنها أهملتْ العدالة الاجتماعية والهوية الوطنية. وتحوّلت الديموقراطية إلى مجرّد إجراءٍ شكلي (صندوقة اقتراع) بفعل استتباع قوى رأس المال للنخب السياسية (تخادم الأقلّيات) بهدف حماية مصالحها الضيّقة. في المقابل، تؤكّد القوى الصاعدة عدم وجود نموذجٍ عالمي موحّد للديموقراطية وأنها تقدّم نماذج بديلة ناجحة مِن السيادة الشعبية ذات خصائص محلية، كما يجري كسر السرديّة الغربية عن حتميّة ارتباط النهوض بالديموقراطية الليبرالية.
6. تقرّ أميركا بأنّ أحاديّة ما بعد الحرب الباردة قد انتهت وأنّ النظام الدولي يمرّ بمرحلةٍ انتقالية وتجد في الصين التحدّي الرئيسي، ولذا قرّرت الدفاع عن هذا النظام مع إدخال تعديلات الحدّ الأدنى الممكن تحت عنوان إصلاحه لإغواء بعض القوى الصاعدة وجذبها بعيداً عن الصين.
7. تجد أميركا أنّ العالم عاد إلى مرحلة صراع القوى الكبرى، ولذا تجهد لإعادة توحيد المعسكر الغربي ونسج شراكاتٍ مع قوى مِن خارجه وفق أولوية حفظ النظام الدولي «القائم على القواعد» (أي القواعد الأميركية) كخطٍّ يفصل بيْن المعسكر الغربي وخصومه، وعليه يتمّ التغاضي عن انتهاك معيار الديموقراطية الليبرالية. كن ما شئت، لكن اخضع.
هذا هو العالم الذي يتعيّن على مشروع المقاومة الاستعداد للمشاركة فيه والانتقال إلى مرحلةٍ جديدة مِن الصراع لتشكيل منطقة غرب آسيا
8. تتبنّى «الدولة العميقة» في واشنطن مقولة أنها أمام عقدٍ حاسم في مواجهة الصين (حتى نهاية 2030) حيث يجب عليها إبطاء الصعود الصيني وفق ثلاثية بناء القوّة الذاتية وتوسعة وتعميق الشراكات ومنافسة الصين. مع الإشارة إلى أنّ القوّتين الدوليتين حريصتان على تجنّب الصراع العسكري ومحاولة التعاون في بعض القضايا مع بقاء المنافسة هي المحدّد الأساسي للعلاقة بينهما. هذا التنافس ليس مجرّد نسخةٍ مكرّرة للحرب البادرة نظراً إلى التشبيك الاقتصادي المتبادل الكثيف بيْن الصين وأميركا ولكون المنافسة تتركّز حول قضايا غير إيديولوجية.
9. تتركّز مجالات المنافسة الرئيسية بيْن أميركا والقوى الصاعدة، ولا سيما الصين، حول التكنولوجيا ودمجها في مجالَي القوّة العسكرية والاقتصاد، وبناء التحالفات الدولية واجتذاب دول الجنوب، وتجاوز الانقسامات والتوتّرات الداخلية لضمان الاستقرار والمشروعية الشعبية.
10. تفرط الولايات المتحدة في استخدام أدوات القهر والإرغام ما دون العمل العسكري (العقوبات والعزل الاقتصادي وحرب المعلومات والقوّة الناعمة والحرب السايبرانية والحرب بالوكالة والأنشطة الأمنية)، لمحاولة إبطاء سرعة التحوّلات الدولية، وهذا يؤدّي إلى الإضرار بالنظام الدولي والعولمة. وهذا ما يدفع معظم القوى الصاعدة إلى السعي لتعديل هيكل النظام الدولي القائم لجعله أكثر توازناً وعدالة وتمثيلاً والبحث عن نظمٍ بديلة في الأمن والاقتصاد والتبادلات المالية، واعتماد استراتيجيات التحوّط والتأرجح في العلاقة مع واشنطن.
11. ستكون الدول الكبرى مضطرّة إلى التعاون في ما بينها في قضايا تتّصف بكونها «خيراً عالمياً» أو «المصير المشترك» مثْل المناخ والحدّ مِن التسلّح النووي والكوارث الطبيعية ومخاطر الذكاء الاصطناعي. وستبقى العولمة مصلحةً للجميع، لكن بوزنٍ أكبر للشرق وروابط أكبر بيْن دول الجنوب.
12. تعود الثقافة/ الحضارة لتكون مرتكزاً في السياسات القومية وفي التنافسات الدولية. وهنا يُلاحظ ميْل الدول نحوَ تعزيز التكامل بيْن العناصر الدينية والقومية في هويتها. وتتزايد الدعوات لإنتاج علومٍ إنسانية واجتماعية عالمية تتحدّى المركزية الغربية التي أنتجت رؤىً منحازة ومشوّهة وإقصائية انعكست واقعاً في سياساتٍ عنفيّة واستعلائية.
13. ارتفاع موجة العداء للعولمة النيوليبرالية إمّا لكونها تضمر الأمركة أو الغربنة (تظهر خارج الغرب) وإمّا لكونها تحوّلت إلى أداةٍ لتقويض الهويات والمصالح الوطنية المحلّية ومراكمة الثروة بِيَد نخبةٍ رأسمالية معولمة فاسدة تتخفّى وراء نخبٍ سياسية تابعة (تظهر داخل الغرب). في المقابل، يتزايد الاهتمام بالأقلمة من خلال التشبيك بيْن الدول المتجاورة عبْر البنى التحتية العابرة للحدود وبناء مؤسسات إقليمية وتأكيد التناغم الثقافي.
الترجيح، بحال استمرار الاتّجاهات الحالية بدون مفاجآتٍ كبرى، أنْ نشهد بنهاية العقد الحالي (2030) وضعاً دولياً شِبه ثنائي القطب. هو ثنائي وليس متعدّد الأقطاب لوجود فجوةٍ هائلة في عناصر القوّة بيْن كلّ مِن الصين وأميركا مع باقي الدول الكبرى والمتوسّطة. وهو شبه ثنائي نظراً إلى استمرار وجود تفاوتٍ ملحوظ في بعض جوانب القوّة العسكرية والتكنولوجية والديبلوماسية والمالية لمصلحة واشنطن. ولهذا الوضع الدولي ميزتان أساسيّتان: الأولى أنه يتيح تأثيراً حيوياً للقوى المتوسطة في المناورة والصعود والاشتراط، والثانية أنه في مجالاتٍ معيّنة ستظهر في آنٍ واحد عدّة نظمٍ بمركزية أميركية أو صينية أو غيرها، حيث أشكال مختلفة مِن الحداثة والمؤسّسات والمعايير.
هذا هو العالم الذي يتعيّن على مشروع المقاومة الاستعداد للمشاركة فيه والانتقال إلى مرحلةٍ جديدة مِن الصراع لتشكيل منطقة غرب آسيا وفق ما ينسجم مع مصالحها الحيوية. إنّ نتائج حرب ما بعد 7 أكتوبر مضروبة بقيمة المنجزات السابقة لهذا المشروع ستحدّد مقدار الرصيد الذي سيدخل فيه مشروع المقاومة عالم ما بعد «العقد الحاسم».
* أستاذ جامعي
المصدر: الأخبار اللبنانية