(لو استبدلت القبائل والطوائف العربية المتحاربة بسلاح أميركي سلاحها بأسلحة غير أميركية ربما ستجد الولايات المتحدة لنفسها حينذاك دوراً له صدقية في الدعوة إلى السلام وفي التوسط لمنع اندلاع الحروب ولوقفها في المنطقة)
لا يسع أي مراقب عدم الربط بين حالة عدم الاستقرار وانعدام الأمن والحروب الداخلية المحتدمة في أقطار الوطن العربي وبينها وبين صادرات السلاح الأميركية الهائلة إلى المنطقة، بحيث لا يكون من المبالغة الاستناج بأن دماء ملايين العرب المسفوكة في هذه الحروب هي التي تشغل مصانع السلاح الأميركي أكثر مما تشغلها مصادر الطاقة المعروفة.
في خطابه عن حال الولايات المتحدة الأميركية يوم الثلاثاء الماضي وصف الرئيس باراك أوباما حال الاقتصاد الأميركي بانه "في الوقت الحاضر هو الاقتصاد الأقوى والأكثر متانة في العالم"، مضيفاً "إننا الآن في وسط أطول سلسلة في التاريخ لخلق الوظائف في القطاع الخاص"، وموضحاً أنه "تم خلق أكثر من 14 مليون وظيفة جديدة... وتم خفض معدل البطالة إلى النصف"، ليخلص إلى القول إن "الولايات المتحدة الأميركية هي الدولة الأقوى على الأرض".
لكنه تجاهل عامداً الربط بين الحال الاقتصادي لبلاده وبين دور مشتريات السلاح العربية منها بعشرات مليارات الدولارات الأميركية التي يعود الفضل إليها في إيصال الحال الاقتصادي لبلاده إلى وضعه الراهن الذي افتخر به في خطابه، ناهيك عن ودائع واستثمارات "الصناديق السيادية" والقطاع الخاص العربي فيها.
لقد حولت مشتريات السلاح العربية الولايات المتحدة إلى أكبر مصدر للسلاح في العالم، وحولت مشتريها العرب معاً إلى أكبر مستورد للسلاح في العالم.
فعلى سبيل المثال، وعلى ذمة صحيفة "عكاظ" السعودية، فإن التحالف الإسلامي ضد الإرهاب الذي أعلنته الرياض مؤخراً ويضم (35) دولة جميعها تقريباً تتسلح بسلاح أميركي يمتلك (2500) طائرة حربية وما يقارب (21) ألف دبابة متنوعة و(461) مروحية حربية وأكثر من (44) ألف عربة قتالية مصفحة.
وتقول التقارير إن المملكة العربية السعودية اشترت أسلحة معظمها أميركي تزيد قيمتها على ستين مليار دولار أميركي خلال عام 2015 المنصرم وحده. وفي سنة 2014 السابقة زادت المملكة إنفاقها العسكري بنسبة (17%) لتكون أعلى نسبة للانفاق العسكري في العالم كما قال تقرير لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام في نيسان/ أبريل الماضي. واحتلت المملكة المرتبة الرابعة في العالم في الإنفاق العسكري في سنة 2013 السابقة لتنفق (67) مليار دولار أميركي حسب المعهد ذاته. وبلغ إجمالي الإنفاق العسكري في الشرق الأوسط، ومعظمه عربي أنفق على مشتريات السلاح الأميركي، (150) مليار دولار عام 2013.
وحسب التقرير السنوي لخدمة أبحاث الكونجرس الأميركي الذي نشر في كانون الأول/ ديسمبر الماضي جاءت السعودية وقطر في رأس الدول المشترية للأسلحة النارية الأميركية الصغيرة، بينما بلغت قيمة مشتريات العراق من السلاح الأميركي (7.3) مليار دولار منذ عام 2011.
والمفارقة أن دول الخليج العربية التي ترفع صوتها عالياً ومدوياً اليوم في سياق الأزمة بينها وبين إيران منتقدة السلبية الأميركية في احترام التحالف الاستراتيجي القائم بين الطرفين طوال عقود من الزمن ما زالت تمتنع عن معاملة الولايات المتحدة بالمثل في الأقل بالامتناع عن شراء السلاح منها، أو في الأقل في إنقاص الكميات المشتراة منه.
لا بل إن الإمارات العربية المتحدة، وهي من المشترين العرب الرئيسيين للسلاح الأميركي، والتي تطالب إيران بالانسحاب من ثلاث جزر لها تقول إنها محتلة، لا تجد حرجاً في عدم إعادة النظر في علاقاتها الأميركية وفي استضافة قاعدة عسكرية أميركية كبيرة تضم ثلاثة آلاف جندي أميركي في "جبل علي" بدبي وفي مشاركة الولايات المتحدة في ست تحالفات عسكرية خلال ربع القرن المنصرم كما قال سفيرها في واشنطن يوسف العتيبة في كلمة له في مؤتمر بجامعة الدفاع الوطني التابعة للبنتاغون أوائل الشهر الجاري.
وسيكون من السذاجة حقاً تجاهل الاستنتاج بأن الولايات المتحدة هي المستفيد المباشر من هذه الحروب العربية وأن ربيبتها دولة الاحتلال الإسرائيلي هي المستفيد الاستراتيجي منها، ومن الصعب جداً القول إن للولايات المتحدة أي مصلحة في وقفها.
بعد لقائه نظيره السعودي عادل الجبير في لندن الأسبوع الماضي قال وزير الخارجية الأميركي جون كيري إن "آخر ما تحتاجه المنطقة هو مزيد من الصراع"، وذلك صحيح فأهلها قد أنهكهم الصراع، غير أن الصراع في المنطقة هو على وجه التحديد ما تغذيه الولايات المتحدة، فهي بالرغم من هيمنتها عليها استفحلت الحروب فيها وانعدم السلام وها هي الحرب على اليمن بالسلاح الأميركي تكاد تكمل عامها الأول وهي تتفرج عليها حتى باتت توصف بالحرب "المنسية".
حسب بيان للكرملين، وبعد مكالمة هاتفية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم الأربعاء الماضي، دعا أوباما مع نظيره الروسي إلى "عدم تصعيد التوترات" الإقليمية وبخاصة بين السعودية وبين إيران، لكن تعليق صادرات السلاح الأميركي إلى المملكة يظل هو الوسيلة الأكثر نجاعة لخفض التوتر ووقف الحرب السعودية على اليمن وسورية وغيرهما والتي لن تستطيع المملكة الاستمرار فيها من دون الدعم التسليحي واللوجستي الأميركي.
ومن يراجع سجل العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة لمنع تصدير السلاح إلى مناطق "الصراع" في العالم لأسباب لا يمكن مقارنتها بخطورة الصراعات في الوطن العربي ومحيطه الإسلامي لا بد وأن يستهجن مستنكراً استمرار مصانعها في العمل بكل طاقتها لتسليح أطراف الصراع في المنطقة حتى لا تكاد تلبي طلباتهم، وخصوصاً تلك المسؤولة عن الحروب فيها، وأولها دولة الاحتلال الإسرائيلي، يليها حلفاؤها العرب الذين يتحملون مسؤولية رئيسية عن الحروب في سورية والعراق واليمن وليبيا وغيرها، بكل ما يتمخض عن ذلك من عدم استقرار إقليمي واستنزاف للموارد التي توجد حاجة ماسة لها للتنمية.
والمؤسف أن الدول العربية النفطية الرئيسية المشترية للسلاح الأميركي تسمح للولايات المتحدة أيضاً باستغلال سلاحها النفطي لشنّ حرب افتصادية على منافسي أميركا الروس والإيرانيين لتكون هذه الدول ذاتها هي الخاسر الأكبر فيها، مرة باستنزاف أرصدتها السيادية في الخارجية للتعويض عن انخفاض أسعار النفط بنسبة تزيد على ستين في المائة خلال السنة الماضية فقط، ومرة بالعجز الكبير في ميزانياتها للسبب ذاته، لتظل الولايات المتحدة هي المستفيد الأول والأخير من الحروب ومن انخفاض أسعار النفط على حد سواء، ولتظل دولة الاحتلال هي المستفيد الاستراتيجي الأول والأخير من كل ذلك.
يوم الخميس الماضي اقتبست الـ"بي بي سي" من تقرير لصندوق النقد الدولي قوله إن دول الخليج العربية سوف تستهلك احتياطياتها المالية خلال خمس سنوات إذا واصلت سياساتها النفطية الحالية، وإن الاحتياطيات المالية السعودية تتآكل بوتيرة متسارعة إذ استهلكت المملكة (100) مليار دولار منها خلال العام الماضي منها (70) مليار دولار خلال ستة أشهر فقط.
وأضاف تقرير صندوق النقد أن هذه الدول خسرت ما مقداره (360) مليار دولار العام المنصرم بسبب هذه السياسات، وقد انعكست هذه السياسات سلباً على مستوى معيشة المواطنين العرب في دول الخليج، فقاد العجز في ميزانياتها إلى تخفيض دعم حكوماتها للخدمات الأساسية المقدمة لهم وإلى رفع الأسعار والبدء في فرض ضرائب جديدة عليهم لم يعرفوها من قبل.
وهذه السياسات النفطية خلقت "الأزمة الداخلية الأسوأ" التي تواجهها منظمة "أوبيك" منذ قيامها قبل خمسة وخمسين عاماً كما كتب جون دفتيريوس المحرر في شبكة "سي ان ان" يوم الجمعة الماضي.
وقد وصف أوباما بلدان "الشرق الأوسط" بأنها "مستنقع للدماء" وقال إن الحروب فيها "سوف تستمر لسنوات طويلة مقبلة"، وإن "عدم الاستقرار سوف يستمر طوال عقود من الزمن" فيها، لأن "جذور الصراعات" في المنطقة "تعود إلى آلاف السنين" كما ادعى.
وهذا ليس وصفاً منه لواقع مقدّر لا مفرّ منه بقدر ما هو تعبير عن سياسة أميركية مرجوة لاستمرار عجلات الصناعات الحربية الأميركية دائرة وصادراتها العسكرية متدفقة إلى المنطقة.
إن تصريح المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية جون كيربي مؤخراً بأن الولايات المتحدة "لا نية لديها" في التوسط في الصراع السعودي – الايراني لم تكن مجرد زلة لسان بقدر ما كانت تعبر عن سياسة أميركية مدروسة تستهدف تسعير التوترات والحروب الاقليمية حتى تظل عجلات صناعة السلاح الأميركي دائرة.
ولو استبدلت القبائل والطوائف العربية المتحاربة بسلاح أميركي سلاحها بأسلحة غير أميركية ربما ستجد الولايات المتحدة لنفسها حينذاك دورا له صدقية في الدعوة إلى السلام وفي التوسط لمنع اندلاع الحروب ولوقفها في المنطقة.
لكن أوباما في نبوءته سيئة النية في استمرار الحروب في المنطقة "لسنوات طويلة مقبلة" تجاهل عامدا كذلك المسؤولية المباشرة لسياسة بلاده الخارجية عن تفجير هذه الحروب، وعن الفتنة الطائفية النائمة التي أيقظها عامدا متعمدا الغزو الأميركي للعراق، ومسؤوليتها المباشرة عن دعم دولة الاحتلال الإسرائيلي وحمايتها كسبب أول ورئيسي لحال عدم الاستقرار وانعدام الأمن الإقليمي الذي يسود المنطقة منذ سارعت بلاده إلى الاعتراف بها بعد دقائق من إعلان قيامها عام 1948.
وفلسطينياً يظل التساؤل قائماً عما إذا كانت العوائد المالية الأميركية من مشتريات السلاح العربية تموّل المعونات العسكرية التي تقدمها الولايات المتحدة لدولة الاحتلال الإسرائيلي.