لم تكن تجربة الاعتقال للأسير الفلسطيني المحرر رأفت حمدونة محطة عابرة في حياته، فالسجن في نظره كان "حلبة لصراع الإرادات" بين أسرى فدائيين يعتبرون السجون ساحات مقاومة جديدة، وبين السجان الإسرائيلي ومصلحة سجون الاحتلال التي تنتهج "مخططات هندسة بشرية" لتدمير إرادة الأسير وأمله في الحياة.
كان حمدونة شابا في الـ20 من عمره، يدرس تخصص المختبرات الطبية في كلية المجتمع العصرية في رام الله، عندما اعتقلته قوات الاحتلال في عام 1990، وقضت بسجنه بعدد سنوات عمره آنذاك، قبل تخفيف الحكم إلى السجن 15 عاما، قضاها كاملة حتى تحرر في عام 2005.
ويصف حمدونة تجربة السجن بأنها "مدرسة، النتيجة فيها إما ناجح بتفوق، أو راسب، فهي سلاح ذو حدين، إما أن يجيد الأسير استخدامه واستثماره، أو يرتد إلى صدره.. وفيها يتحول القلم إلى بندقية والورقة إلى ساحة معركة مع السجان".
مدرسة السجن
يشعر حمدونة بالرضا عن نتيجته في "مدرسة السجن"، وكان لكلمات وجّهها له سجان إسرائيلي قبل حكم المحكمة العسكرية وقعها في نفسه، إذ قال له "عمرك 20 عاما وستقضي هنا 20 عاما"، ويقول للجزيرة نت "رفعت هذه الكلمات من رغبة التحدي في نفسي، وقلت: إذا كان الأمر كذلك فليكن كما أريده أنا وليس كما يريده السجان".
برفقة 36 أسيرا، كان أصغرهم عمرا، قضى حمدونة أول عامين في "عزل نيتسان الرملة"، الأشد والأقسى من بين أقسام العزل في سجون الاحتلال، لوقوعه أسفل الأرض، وافتقاره إلى أبسط مقومات الحياة، مع كثير من الحشرات والقوارض التي تزاحم الأسرى في المكان على ضيق مساحته، قبل أن ينتقل إلى الأقسام العادية مع أسرى آخرين في سجن عسقلان، وفيه "شعرت بأنني حر مقارنة بحياتي في العزل"، كما يقول حمدونة.
وفي سبتمبر/أيلول عام 1992 كان حمدونة على موعد مع محطة نضالية برفقة الأسرى في جميع السجون، خاضوا 17 يوما من الإضراب، لانتزاع مطالب لتحسين مستوى الحياة داخل السجون، أبرزها الحق في التعليم الجامعي.
ويقول "انتزعنا كثيرا من الحقوق التي كان لها الأثر الإيجابي على حياة الأسرى داخل السجون، بما فيها سماح الاحتلال للراغبين من الأسرى بالتعليم الجامعي في الجامعة المفتوحة في إسرائيل، بعدما رفضت مطلبنا بالتعليم عن بعد في الجامعات الفلسطينية".
في ذلك الوقت لم يكن حمدونة يجيد اللغة العبرية، وكان منشغلا في مهام تنظيمية، حتى قرر في عام 1999 الالتحاق بالجامعة، وتخرج فيها بتفوق في تخصص علم الاجتماع، ويقول "تفوق أسرى على جنود الاحتلال الذين كانوا يدرسون في الجامعة نفسها بالانتساب، رغم الظروف الصعبة للدراسة والامتحانات داخل السجون".
أداب السجون
ليست الشهادة الجامعية هي الإنجاز الوحيد لحمدونة داخل السجن، فقد كانت له "بصمة" فيما يعرف فلسطينيا بـ"أدب السجون"، من خلال 4 روايات يسميها "الرباعية الوطنية"، وهي: رواية "عاشق من جنين" وتحكي حكاية صمود هذا المخيم ومقاومته خلال انتفاضة الأقصى عام 2000، ورواية "قلبي والمخيم" وتروي حكاية مخيم جباليا للاجئين مهد الانتفاضة الأولى عام 1987، والذي شهد طفولة حمدونة ونشأته، ورواية "لن يموت الحلم" وتتناول حكايات كفاح أهالي مدينة رفح، وهي بوابة فلسطين الجنوبية وكان لها دور بارز في الانتفاضات.
ورابع هذه الروايات هي "الشتات" ولها مكانتها في نفس حمدونة، فهي آخر ما كتب وراء قضبان السجن، وتروي سردية التشرد والشتات الفلسطيني إبان النكبة عام 1948، ومحطات نضالية لا تتوقف في حياة الفلسطينيين الذين يتوارثون النضال ضد الاحتلال جيلا بعد جيل، ويقول حمدونة إن هذه الرواية ترجمت إلى اللغة الإنجليزية، و"كانت عنوانًا لأبحاث قدمت في مؤتمرات علمية".
وإضافة إلى الروايات الأربع، لحمدونة 10 كتب أخرى، اثنان منها ألفهما داخل السجن، وأبرزها: "ما بين السجن والمنفى حتى الشهادة"، و"نجوم فوق الجبين"، و"صرخة من أعماق الذاكرة"، و"الإدارة والتنظيم للحركة الأسيرة" بمشاركة رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين الوزير قدري أبو بكر
مهمات يومية
في عام 2005 غادر حمدونة السجن ولم يغادره السجن، فظل ارتباطه وثيقا برفاق القيد، وكانت أول محطات الوفاء لهم والنضال من أجل حريتهم مبادرته الذاتية لتأسيس موقع إلكتروني متخصص باسم "مركز الأسرى للدراسات"، والتحق بالعمل في هيئة شؤون الأسرى مديرا لدائرة القانون الدولي، ويقول إن "الرواية والأدب والبحث العلمي أسلحة مهمة لحفظ الذاكرة، وإبقاء قضية الأسرى متقدة".
وبعد أسابيع قليلة من تحرره، كان حمدونة على مقاعد الدراسة ضمن أول دفعة لنيل درجة الماجستير بتخصص "الدراسات الإسرائيلية" في جامعة القدس المفتوحة، والتحق بعدئذ بالدراسة في "معهد البحوث والدراسات العربية" التابع لجامعة الدول العربية في القاهرة، ونال درجة الدكتوراة مع مرتبة الشرف الأولى وتوصية بطباعة الرسالة وعنوانها: "الجوانب الإبداعية في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة".
وقد تكفلت وزارة الإعلام في السلطة الفلسطينية بطباعة الرسالة في كتاب يعدّ الأول من نوعه، ويتناول الجوانب المشرقة للأسرى في غياهب ظلمات السجون، وتعاليهم على ظلم السجان وكسر إرادته، بالتعليم والفنون والموسيقى والأدب.
ومنذ تحرره، يحتل الأسرى جزءا أصيلا من الروتين اليومي لحمدونة، ويقول "اليوم الذي ينال مني التعب بالحديث والعمل من أجل هذه القضية العادلة هو اليوم الذي أشعر فيه بالرضا وأخلد فيه إلى النوم مرتاح الضمير".
وأضاف "لو لم أخض تجربة الاعتقال في سجون الاحتلال لما كنت أنا الشخص الذي تراه الآن.. الأسرى لهم الفضل علينا ولا نمنّ عليهم بما نفعل".
ولحمدونة إسهامات إعلامية وتعليمية كبيرة، مثل تأسيسه "إذاعة صوت الأسرى" التي لازمته فكرتها داخل السجن، وتقديمه برامج إذاعية متخصصة أبرزها "رغم القيد"، و"على جناح الطير"، و"المشهد الآخر".
المصدر : الجزيرة