منير شفيق
شكّل ظهور السلاح، وفرضه، بأيدي المقاومين في كتائب جنين، ونشوء كتائب معلنة وغير معلنة، في أكثر من موقع في الضفة الغربية. ثم بروز مقاومين مميزين تحت اسم عرين الأسود، علائم تصعيد للمقاومة واتسّاعها، في الضفة الغربية. وقد عجز العدو عن إخمادها، والانتهاء منها، بالرغم ممن قتل من شهداء كثر، ومع ذلك سرعان ما عُوّضوا بمقاومين كثر وأكثر.
الأمر الذي أبرز سؤالاً مهماً، تجاوز الأسئلة الكثيرة، التي تضمنت تقديرات تدور حول مستقبل الظاهرة، وقدرتها على الاستمرار. هذا السؤال الذي تجاوز التقديرات، يوجب الردّ ومحاولة تعزيزه. أما نصّه فكالآتي:
هل يمكن للمقاومة الانتصار، ولو بحدود دحر الاحتلال من الضفة الغربية والقدس؟ الجواب جوابان: 1- نعم ممكن، نظرياً وتجربة. 2- وممكن، عملياً، من واقع المقاومة الراهنة وعبرتها.
أولاً: فمن ناحية نظرية، كما من ناحية التجارب والسوابق عندنا: دُحِرَ الاحتلال من جنوب لبنان عام 2000، وتم دحره وتفكيك المستوطنات من قطاع غزة 2005. فبقاء الاحتلال أو انسحابه يتوقفان، كما كل السياسة على ميزان القوى العام، عالمياً وإقليمياً وميدانياً. إذا كان ميزان القوى مؤاتياً عالمياً وإقليمياً، وقع الاحتلال، وامتدّ إلى أمد طويل، كما حدث، مثلاً في لبنان من عام 1982 إلى 2000، أو في قطاع غزة من 1967 إلى 2005. وذلك حتى تتغيّر موازين القوى العامة من جهة، ويصبح بقاءه واستمراره مكلفين أكثر من الانسحاب، أو عندما يصل إلى اليأس. لأن المقاومة متواصلة، والنزف بالنسبة إليه لن يتوقف.
وقد ثبتت صحّة هذه الشروط بالنسبة للكثير من الاحتلالات، وفي مقدّمها الاستعمار القديم، الذي استمر في بعض البلدان، طوال القرن التاسع عشر. وأخذ بالرحيل في منتصف، قبيل، وبعد، 1950.
ثانياً: أما عملياً، في المرحلة الراهنة وتجربتها القائمة واحتمالاتها، فيجب أن نلحظ بداية، أن ميزان القوى العالمي والإقليمي (العربي والإسلامي) لم يعودا مؤاتيين للكيان الصهيوني. وذلك من حيث ما أصاب، وراح يصيب، أمريكا وأوروبا من وهن واهتزاز لسيطرتهما العالمية، وهو ما نشهده في احتدام صراعهما، في مواجهة الصين وروسيا، فمن هذه الناحية، أصبح شغلهما الشاغل هو العودة للسيطرة، كما كانا قبل موازين القوى العالمية الراهنة. ولهذا سوف يرتبكان، بل يزعجهما تصاعد المقاومة ضدّ الاحتلال، والاستمرار في دعمه. ولم يعد بمقدورهما، دعم الاحتلال.
أما الصراع المحتدم، بين أمريكا والكيان الصهيوني، ضدّ إيران ومحور المقاومة، على المستوى الإقليمي، فإن المقاومة وصلت إلى حالة استنزاف وإرباك للكيان الصهيوني، ثم لأمريكا. الأمر الذي يفسّر الضغوط التي مورست دولياً وعربياً، على فصائل المقاومة للتهدئة. وعدم تصعيد المواجهة، إلى حدّ يتهدّد، باندلاع الحرب بين الكيان الصهيوني وقطاع غزة.
فمن هنا ثمة آفاق مفتوحة، أو فرص لا تفوّت، في مصلحة المقاومة في القدس والضفة الغربية، لانتزاع انتصار لدحر الاحتلال، من خلال تعريضه لضغوط، بسبب استمرار تمسّكه بالاحتلال، وبناء المستوطنات، وارتكاب جرائم الحرب في القدس والمسجد الأقصى والضفة الغربية. وبدهي أن دحر الاحتلال، يرتبط بمواصلة تحرير فلسطين.
ولكن ما تقدّم حتى الآن يحتاج لتوفر شرطين. وذلك ليصبح "فك الارتباط" (كما حدث في قطاع غزة) أقل كلفة من الاستمرار في المواجهات الراهنة، مع مقاومة متصاعدة، راحت تعوّض خسائرها عبر العشرات من المقاومين الجدد، الآتين من مئات آلاف الشباب في الجنائز. وما يعبرّون عنه من غضب، وهم يرفعون الشهداء على أكفهم.
هنا يجب أن نلحظ هذا البُعد الذي يربط شهداء المقاومة بعشرات الآلاف من المنتفضين في جنائزهم. الأمر الذي يجعل النزيف من الشهداء في هذه المعادلة الشعبية العفوية، يختلف عن النزيف الذي يتعرّض له فصيل، أو تنظيم مقاومة. فكل تنظيم في النهاية، محدود العضوية. ومن ثم يرهقه حدوث نزيف، كالذي يحدث في الضفة الغربية والقدس منذ عام. ومن دون أن ينضب له معين.
هذا البُعد إذا ما استمر، وسوف يستمر، حتماً إن شاء الله، وسيدخل الاحتلال في نهاية المطاف، في حالة اليأس والإرهاق والخسائر المستمرة. مما يفرض عليه أن يرى في الانسحاب، أقل كلفة وخسارة، من استمرار الاحتلال والحفاظ عليه.
ثمة آية في القرآن الكريم، أن تحفظ عن ظهر قلب من قِبَل كتائب جنين وعرين الأسود وكل المقاومين،وهي آية:
[إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]. }سورة النساء: آية 104{
إن القانون الحاكم بين المقاومة الراهنة والقوات العسكرية المحتلة، محكومة بالاستنزاف والاستمرار والتصعيد، برغم فداحة الخسائر، لإرهاق العدو وتيئيسه من إمكان تصفية المقاومة والقضاء عليها، أكثر مما هو محكوم، بما يمتلكه الاحتلال من عناصر قوّة، وميزان عسكري بحت. أي أن من الممكن إنزال الهزيمة بالعدو إرادةً ومعنويات، واستنزافاً وخسائر، مع قدرة المقاومة على الاستمرار، بسبب النبع الشعبي الدفّاق بالمقاومين الجدد أبداً. وذلك كما في هذه السنة المباركة للمقاومة في القدس والضفة الغربية، وهي المسنودة من جماهير ملتفة حولها، ومن مقاومة جبّارة في قطاع غزة، ومن انتفاضات شعبية، ومن أمة عربية وإسلامية تسندها بالتأييد والحب والإكبار، وقبل ذلك رعاية الله ونصرته.
يخطئ من لا يظن أن العدو الصهيوني لا ينحني ولا يتراجع، ولا يُهزم ولا يُدحر احتلاله، وتفكيك مستوطناته.
ويخطئ أكثر من يشكك بمقاومة أثبتت جدارتها منذ عام، وما زالت مستمرة، وولدت في مخيم جنين "كتائب المقاومة"، وفي نابلس "كتيبة ابراهيم النابلسي"، و"عرين الأسود" ثم ابن القدس الشعفاطي عديّ التميمي، ثم محمد كامل الجعبري، والحبل على الجرار، في باقي المدن والمخيمات وساحات المسجد الأقصى، ولا ننسى مقاومي مناطق 48، وفلسطينيي الخارج، أول من حمل سلاح المقاومة، وما زال السند والنصير، وحاشد التظاهرات في كل العواصم.
تبقى نقطة ضعف لا بدّ من التوقف عندها، وهي المتعلقة بموقف حركة فتح، وسلطة الحكم الذاتي، مما يجري حتى الآن.
لا شك أن ثمة مجموعة هامّة من المقاومين، نزلوا إلى الميدان من كتائب الأقصى، ومن بعض الأجهزة الأمنية. ولكن مقابل ذلك ثمة اكتفاء من جانب قيادة فتح ، بإصدار بيانات تستنكر بعض جرائم قوات الاحتلال. ولكن لم تتقدم لتأخذ مكانها في المقاومة، وغسل اليدين من اتفاق أوسلو وتداعياته. مما كان سيسهم في التعجيل بتحقيق انتصار المقاومة.
أما الجانب الأكثر سوءاً، فقد مثلته مساعي رئيس الوزراء محمد اشتيه، عندما حمل مشروعاً قدمه لعرين الأسود بتسليم أسلحتهم للسلطة لاعتقالهم بعض الوقت، بينما يصدر الرئيس محمود عباس، بحق مسلّم سلاحه، عفواً عاماً. ولم يستجب إلاّ ثلاثة فقط من بين عشرات من أبطال عرين الأسود الذين رفضوا هذا العرض الفضيحة، والأشدّ سوءاً من كل مُنكَرٍ وتخاذلٍ وخدمة للعدو.