حتى لو كان الحديث عن استقالة عضوي الوفد الفلسطيني المفاوض، د.صائب عريقات، ود.محمد شتية، وهما بالمناسبة صديقان، منذ كانا يحاضران معاً في الجامعات، ورغم أن عريقات عريق في الشأن التفاوضي، إلا أن شتية لا يقل كفاءة وموضوعية ودقة عن رفيقه وصديقه، نقول حتى لو كانت الاستقالة من قبيل التهديد وبمثابة رسالة ضغط، ليس على أبو مازن، فالرجلان هما
جنديان مخلصان تحت قيادته، ولكن بالأساس للراعي الأميركي، وحتى للرأي العام الفلسطيني، وكذلك بدرجة ما للجانب الإسرائيلي، تفيد بحقيقتين، أولاهما أنه من الضروري الاحتجاج على إقدام إسرائيل على الإعلان عن طرح عطاءات استيطانية، خلال فترة التفاوض، كما أن العملية التفاوضية ذاتها، لا تحقق تقدماً من أي نوع، وثانيهما، هو حجم الرفض الفصائلي وحتى الشعبي لهذا التفاوض بهذه الكيفية.
أما بخصوص الإعلان الإسرائيلي عن بناء نحو 20 ألف وحدة استيطانية الأسبوع الماضي، فقد كان التهديد الجدي الفلسطيني بوقف المفاوضات كافياً لتراجع نتنياهو فور أن اتصل عريقات بناءً على توجيهات من الرئيس أبو مازن بالإدارة الأميركية وروسيا والاتحاد الدولي، ولوّح فيها بوقف التفاوض، مما يعني بأن "العين الحمراء" من شأنها أن توقف الإسرائيليين عند حدهم، لكن يبقى السؤال - هنا - لم يصرّ الرئيس محمود عباس على الاستمرار في التفاوض حتى يكمل مدته المتفق عليها، أي التسعة أشهر، حتى أيار القادم، رغم أنه هو شخصياً قال خلال زيارته للقاهرة قبل أيام أن المفاوضات مجرد أحاديث، وأنه سيواصلها حتى لو أصرّ الوفد الفلسطيني على الاستقالة؟!
ربما كانت هناك محاولة للتمييز بين موقفي حركة فتح وهي تنظيم شعبي قائد ميدانياً للحالة الشعبية وبيّن الموقف الرسمي للسلطة، وربما أيضاً أن الرئيس يريد القول بأن العملية التفاوضية إنما هي موقف سياسي للسلطة الحريصة على الالتزام بما تتفق عليه مع الآخرين، وأنها غير مرتبطة بشخص د.صائب عريقات أو غيره، وربما أن الأمر يعود لما يشير إليه كثير من المراقبين، من أن الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، غير الراغبين بهذه الجولة التفاوضية، كلاهما لا يريد أن يتحمل مسؤولية وقفها أمام الإدارة الأميركية، وتحمل تبعات ذلك من "توتر" محتمل للعلاقة مع واشنطن.
فيما يبدو أن الخارجية الأميركية التي تتلقى - تباعاً - المشاكل فيما يخص علاقاتها بالمنطقة، فبعد الصفعة التي تلقتها في الملف السوري، وبعد الفشل في مراهنتها على نظام الإخوان في مصر، وخروج مصر من جيبها، بعد تقارب القاهرة مع موسكو، إضافة إلى برود العلاقة مع الرياض، بعد دخول الإدارة الأميركية في حالة من التقارب والتفاهم مع طهران، لا يجد جون كيري إلا المفاوضات الفلسطينية/ الإسرائيلية، ما يمكن أن يتحدث عنه كإنجاز لوزارته، منذ تولى مسؤوليتها قبل نحو عام، لكن حتى هذا الملف، يبدو أنه في طريقه للإفلات من قبضة الرجل، فعلى الجانب الفلسطيني، ظهر ملف الراحل ياسر عرفات، بعد أن أكد الفحص الطبي أنه قد مات مسموماً، حيث من المنتظر أن تقدم السلطة على طرح الملف على مجلس الأمن والجنائية الدولية للتحقيق في مصرع القائد الفلسطيني، والمطالبة بتحقيق دولي، على غرار التحقيق الذي جرى في مصرع رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وهذا أمر خارج نطاق الاتفاق الذي مهد للعملية التفاوضية، كذلك على الجانب الإسرائيلي ظهر مستجد ليس قليل الأهمية، ونجم عن "تبرئة" زعيم حزب "إسرائيل بيتنا" المتطرف أفيغدور ليبرمان، من تهم الفساد التي تم التحقيق القضائي فيها، وبوادر ظهور الخلاف بين حزبي تومي لبيد والبيت اليهودي، وهذا ما يفسّر "توتر" تسيفي ليفني، المكلفة بإدارة الملف التفاوضي مع الجانب الفلسطيني، حيث بدأت بإطلاق التصريحات ضد الجانب الفلسطيني، تحمّله فيها مسؤولية الفشل التفاوضي.
كذلك يضاف إلى ذلك أن التقارب بين طهران وواشنطن، والذي بدأ منذ فوز حسن روحاني في وقت سابق من هذا العام، وبعد الاتصال الذي جرى بينه وبين باراك أوباما، على هامش اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة قبل نحو شهرين، قد وتر العلاقة بين تل أبيب وواشنطن، حيث يظهر الخلاف بينهما في معاجلة الملف النووي الإيراني بكل وضوح.
لا أحد يعرف مصير المفاوضات الجارية، وكيف يمكن لها أن تستمر هكذا حتى نهاية الفترة المقررة لها، ولا أحد يعرف بالضبط ما يدور فيها، ولا ما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة مع طرفين يتفاوضان دون رغبتهما، وإن كانت تلك الإدارة قادرة على "فرض" تقارب أو تفاهم أو حل من أي نوع، مع أن المرجح هو أن واشنطن نفسها تعلم كل هذا، وأنها لم تعد تطمح في أكثر من "تهدئة" في هذا الملف وتجنب خسارة إضافية، ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من نفوذ متآكل لها في المنطقة، فما بالنا لو أن عناصر قوة إضافية قد توفرت للجانب الفلسطيني من مثيل إتمام المصالحة، التي ستجد فيها القاهرة بعد أن تغلق الثقوب الأمنية في خاصرتها الضعيفة، في سيناء، مصدر قوة إقليمية لها، ومن مثيل إطلاق المقاومة الشعبية ضد الاستيطان والاحتلال، وحتى في توجه سياسي من السلطة لموسكو، على طريقة دمشق والقاهرة وحتى الرياض!