تملكت الصحفي الذي يعمل لاحدى وكالات الأنباء الغربية موجات من الاستهجان الممزوجة بالغضب، أخذ يقلب ما التقطته عدسته من صور لاستشهاد طفل في منطقة القرارة آواخر انتفاضة الحجارة، ذهب الصحفي الى منزل الطفل ليسجل بالصورة تفاصيل الوداع الأخير،
حاول أن يلتقط كل التعابير الانسانية للأم وهي تودع ابنها الشهيد، وهي تحصنه وتمسح خديه بدموعها وتطبع قبلتها الأخيرة على جبينه، وكيف طوقت بذراعيها براءة الطفولة في محاولة يائسة لمنع المشيعين من انتزاعه منها، ثم يصل الصحفي للصور التي التقطها أثناء تشييع الطفل الشهيد والتي في مجملها تفتقر للمشاعر التي امتلأت بها سابقتها، هو بفطنته الصحفية يرى أن قيمة الصورة بما تحمله من مشاعر واحاسيس انسانية يفهمها الكل ويتفاعل معها.
تذكرت حديث الصحفي وأنا أستمع لأسير محرر وهو يلقي كلمته في الوقفة التضامنية مع الأسير رامي عنبر في الذكرى الثالثة عشرة لاعتقاله، تناول فيها تلك اللحظات التي كان عليه أن يخبر زميله رامي بنبأ موت أبيه، ما أصعبها من لحظات حين يحول الاعتقال دون القاء الأسير نظرة الوداع على والده، وما اصعب أن تتجرع بمفردك الحزن دون أن تجد من يهون عليك ذلك، وتزداد الأمور قساوة حين تمتلئ زنزانة الأسير بألف سؤال وسؤال دون أن يجد اجابة لأي منها، لم نحاول أن نرصد هذه الأمور التي قد تبدو للبعض ثانوية، لكنها هي القادرة على توضيح المساحة الفاصلة بين همجية السجان وانسانية الأسير.
ان المعركة التي يخوضها أسرانا البواسل، بأمعائهم الخاوية في وجه جبروت وطغيان السجان، تتطلب منا ألا نقف موقف المتفرج ولا المعلق الذي يحفظ عن ظهر قلب بعض الجمل ليرددها في كل شاردة وواردة، دون أن يتمكن ولو للحظة واحدة تحميل الكلام بالقليل من المشاعر الانسانية، نحن بحاجة لأن يستمع العالم الى أم الأسير وابيه وزوجته وابنائه، هم من يمتلكون بحديثهم الصورة التي غالباً ما تسقط من بين مفردات الخطابة التي تستحوذ على اهتمام الخطيب لدينا بالمقام الأول.
هذه الصور لسنا بحاجة لأن نضعها في أرشيف ذاكرتنا فقط، بل هي اللغة الأكثر تأثيراً على الرأي العام الاقليمي والدولي، خاصة وأنه آن الأوان لأن نحمل قضية الأسرى الى المحافل والمنظمات الدولية، ومعنا قرار الأمم المتحدة الذي اعترف بفلسطين دولة، ويعطي أسرانا صفة "أسرى دولة" تنطبق عليهم اتفاقيات جنيف، فان كان الأسرى بحاجة الى الالتفاف الشعبي خلف قضيتهم لما يشكله من مؤازرة لهم وتمتين لعزيمتهم، فانهم بحاجة الى تحرك من المجتمع الدولي يكسر به صمته الطويل ازاء قضية انسانية قبل اي شيء آخر.
ألن يكون مفيداً أن نسخّر القليل من الوقت ضمن برنامج زيارة قادة وزعماء العالم لنا لرواية اسرة أسير والاستماع منها مباشرة حول معاناتها المختلطة بمعاناة الأسرى؟ دولة الاحتلال تحرص على تنظيم زيارة لقادة العالم الى متحف المحرقة، والأجدر بنا نحن أن نجعل من الأسرى عنواناً يتوقف زعماء العالم عنده ليستمعوا الى حكاية الشهداء الأحياء.