كلما جاءت إدارة أمريكية جديدة، وضعنا أيدينا على قلوبنا، خشية أن تسبب سياساتها في إلحاق الأذى بنا. وهذا الواقع، قد بقي ملازماً لنا، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حين خرجت الولايات المتحدة بشكل علني، من عزلتها خلف المحيط. وكان الأمر كذلك، مع الاستعمارين البريطاني والفرنسي، منذ تم توقيع اتفاقية سايكس- بيكو، حيث سقطت معظم الأقطار العربية تحت هيمنة الغرب.
بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، اضطلعت إدارة الرئيس الأمريكي عن الحزب الديمقراطي، هاري ترومان، بالعمل بشكل حثيث لتأسيس الدولة اليهودية، ومارست مختلف الضغوط لفرض قرار تقسيم فلسطين رقم 181 في 17 فبراير/ شباط عام 1947. وحين جاء الرئيس دوايت ايزنهاور، من الحزب الجمهوري طرح مشروعه لملء الفراغ بالشرق الأوسط، منطلقاً في استراتيجيته، من أن العرب غير قادرين على حماية أنفسهم، وأنه بمشروعه يسد الفراغ بالمنطقة، أمام أي اجتياح شيوعي. وجاء بعده ليندون جونسون، من الحزب الديمقراطي، ليكون شريكاً رئيسياً في عدوان حرب يونيو (حزيران) عام 1967، الذي تمكنت فيه «إسرائيل» من احتلال شبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة و القدس الشرقية.
كان كل رئيس يصل إلى سدة الرئاسة، يعزز مشروعيته بقضم المزيد من الحقوق العربية، حتى وصل دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة، ومارس سياساته بشكل كاريكاتوري، من خلال صفقته المعروفة، بصفقة القرن، والذي تبرع بموجبها -كما يعتقد- للاحتلال بهضبة الجولان والقدس، ودعم بناء المزيد من المستوطنات، وتنكر للقرارات الدولية، ولسياسات الرؤساء الأمريكيين السابقين، الذين تبنوا قيام دولة فلسطينية مستقلة، بالضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، في الأراضي التي جرى احتلالها في حرب يونيو 1967. ولم يكن تحقيق ذلك ممكناً من قبل ترامب، لولا غياب التنسيق بين العرب، والتمسك باستراتيجية عملية وواضحة تؤمن مصالحهم، وتحمى أمنهم.
الفارق بين مرحلتي الاستعمار التقليدي، وما بعده، هو أن تضامن العرب، رغم ضعفهم، وارتباط معظم الأقطار العربية، بمعاهدات واتفاقيات مع هذه الدولة أو تلك من القوى الكبرى، كان جلياً، على المستوى الشعبي بشكل خاص.
كان الشعب العربي، حتى مطالع الثمانينات من القرن الماضي، يقف مناصراً، أشقاءه، عند كل نازلة. وما زال التاريخ يحتفظ بمناصرة العرب للعراق، أثناء ثورة العشرين، وأيضاً في ثورة 1919 في مصر، وعند مقارعة الشعب الجزائري للاستعمار الفرنسي، وأثناء عزل ملك المغرب محمد الخامس، عن الحكم من قبل الفرنسيين. لقد ساد شعور قويّ لدى الجميع بأننا أمة واحدة، من المحيط إلى الخليج، يربطنا تاريخ ولغة وجغرافيا مشتركة، تجعلنا ننتخي ونتعاضد ونؤكد حضور الأمة عند كل مواجهة ملحمية من الاحتلال.
مرت أكثر من سبعة عقود، منذ تأسست جامعة الدول العربية. وكان المؤمل في ذلك الوقت أن يكون ارتباط العرب بها، خطوة على تحقيق الوحدة العربية. لكن أوضاع التضامن العربي، بعد أكثر من سبعة عقود، ليست أفضل حالاً الآن عما كانت عليه، عند لحظة تأسيس جامعة الدول، وما تبعها من توقيع معاهدة الدفاع العربي المشترك، والأمن القومي العربي الجماعي.
لقد تحقق استقلال معظم البلدان العربية، منذ أكثر من ستة عقود، ولكن مفاتيح القرار السياسي والاقتصادي، ظلت محتكرة للقوى العظمى. وذلك أمر طبيعي، في ظل غياب التنسيق العربي المشترك، وعدم وجود الالتزام، بالحد الأدنى من المواثيق التي وقعها القادة العرب.
وفي ظل غياب العقد الاجتماعي بين الشعوب وقياداتها، وعدم تمكين البنى التحتية من المشاركة في صنع القرار عبر مؤسسات المجتمع المدني، تتيه البوصلة، وتصدر القرارات مفتقرة إلى الحدود الدنيا من الموضوعية. نحارب طواحين الهواء، وتكون خطواتنا في الغالب، ردود أفعال لاهثة ما تلبث أن تنتهي إلى كوارث مروعة وفشل ذريع. فتكون الأقطار العربية، هو الحال الآن عرضة للتهديد والوعيد، من قبل قوى الهيمنة.
ويقيناً فإن النظرة الموضوعية والرصينة تقتضي أولاً الدفاع عن الأمن القومي العربي، والعمل على إيجاد حلول عملية للأزمات الحادة التي تواجه عدداً من البلدان العربية الشقيقة. كما تقتضي تحديد الأهداف والوضوح في الرؤية، سواء فيما يتعلق بطرائق تعاملنا مع التحديات التي تواجه أمتنا أو المخاطر التي تتعلق بأمننا الوطني والقومي، لأن وعي المفاتيح الرئيسية للنهوض والمواجهة على السواء هي وسيلتنا لفك كثير من الطلاسم، ولوضع المقدمات الضرورية للفهم. ولن يتسنى لنا تحديد تلك المفاتيح إلا بتنشيط الذاكرة وطرح الأسئلة، خاصة تلك التي تتعلق بقضايا أساسية ترتبط بمصيرنا ومستقبلنا، ووجودنا.