د. علي محمد فخرو
يحكى أن عضد الدولة البويهي طلب من كاتب اسمه هلال الصابئ أن يكتب كتابا عن تاريخ حكام تلك الدولة فلما سأله الناس عن هذا الأمر أجاب: إنما هي أباطيل ننمقها وأكاذيب نلفقها». هكذا يفعل الانتهازيون والنفعيون والمنافقون عبر كل العصور، وهكذا يفعل بعض العرب المحسوبين على الثقافة والإعلام، بشأن الموضوع الفلسطيني ومستجداته الأخيرة. طلب منهم أن لا يقفوا ضد التطبيع مع الكيان الصهيوني، فأظهروا استعدادا وكرما وحماسا لفعل أكثر من ذلك: إبداع منظومة متكاملة لما يمكن تسميته بالأيديولوجية الصهيونية العروبية، مبنية على أباطيل هلالية منمقة وأكاذيب صابئية ملفقة، إنه التاريخ إذ يعيد نفسه.
وكان الأمر سهلا، فإذا كانت الصهيونية اليهودية الكلاسيكية والصهيونية الأمريكية المسيحية الأصولية، قد بنيت على ادعاءات أسطورية وخرافات دينية وأكاذيب تاريخية تعطي، باسم الله العلي العادل المنزه عن الظلم والتمييز بين خلقه من البشر، قطعة مسماة من الأرض لشعب مختار مفضل دون كل البشر، فإنه من الطبيعي أن يفعل أولئك الكتبة والإعلاميين العرب الأمر نفسه.
يدعي أصحاب مدرسة الصهيونية العربية، أنهم يمارسون البراغماتية الوسطية العقلانية، بين الصهيوني المعتدي والضحية الفلسطينية
وهكذا رأينا الصهيونية العربية الجديدة تُبنى على أكاذيب وتلفيقات خيالية، باسم دين الإسلام ودين المسيحية، ومن خلال تفسيرات متناقضة لبعض الآيات القرآنية، وباسم تزوير متعمد لحوادث تاريخية عاشتها الجزيرة العربية، إبان حياة رسول الإسلام، وبالطبع تصاحب كل ذلك أغان وأهازيج ورقصات تؤديها مجموعات مجيشة. ويدعي أصحاب مدرسة الصهيونية العربية تلك، بأنهم إنما يمارسون البراغماتية الوسطية المحايدة العقلانية، بين الصهيوني المعتدي والضحية الفلسطينية، من دون إعلامنا بالضوابط الوطنية والقومية والأخلاقية والإنسانية، التي تحكم وتوازن تلك البراغماتية، إذ من دون تلك الضوابط ينتهى أصحاب تلك المدرسة إلى ممارسة المكيافيلية بأبشع وأحط صورها اللامنضبطة. وبالطبع فهم يدعون بأن غايتهم نبيلة، تتمثل في مساعدة الشعب الفلسطيني، حتى لو كانت الواسطة لتلك الغاية قبول مجموعة ممارسات بربرية، مثل استيلاء الكيان الصهيوني على تسعين في المئة من فلسطين، وتشريده لستة ملايين فلسطيني في المنافي، مع رفضه عودتهم، وسجنه لآلاف الفلسطينيين فقط، لأنهم يقاومون استعماره الاستئصالي، وهدمه للبيوت واقتلاع الأشجار، وتجويعه لساكني غزة، وسرقته للمياه، واعتبار الفلسطيني في الجزء المحتل مواطنا من الدرجة الثالثة، وتصريح قادته بأن أرض إسرائيل الموعودة هي ما بين نهر النيل ونهر الفرات، وممارسته لمماطلات ووعود كاذبة عبر ربع قرن من محادثات أوسلو المشؤومة.
لقد كُتب الكثير عن مسيرة التراجع المذهلة لطبيعة المثقف العربي: من مثقف تنويري نقدي إصلاحي تحرري، إلى مثقف سلطوي غير ديمقراطي يحتقر الأيديولوجيا الملتزمة النضالية، وينبهر بحداثة الغير، ويتأرجح في مواقفه بين الموضات الفكرية، وصولا إلى حالة البعض الراهنة، المتصفة بالفردانية الأنانية، والتنكر للهوية العروبية، واحتقار الالتزامات الوطنية والقومية، ونشر أكاذيب التبرير لكل مغامرة سياسية أو أمنية تمزق هذه الأمة وتدخلها في أتون صراعات مجنونة، وتجعلها خاضعة لابتزاز كل استعماري محتقر لها ولثقافتها. وهذا ما يفعله الآن البعض بحق موضوع قومي إنساني أخلاقي في فلسطين المحتلة. منذ ربع قرن كتب المفكر العروبي قسطنطين زريق، أن الواجبات التي تلقى على عاتق المثقف التزاماتها تقع في ميداني المقاومة والقيادة المشاركة في مقاومة المستعمر والمحتل المغتصب، والمسيطر الظالم في المجتمع العربي» وهذا حسب رأيه يتطلب مقاومة الأوهام وإيثار الذات، والخداع والضلال، والاستعلاء والغربة عن المجتمع. ويردف الدكتور زريق بأن تلك المقاومات الخارجية والداخلية، هي التي ستؤهُل المثقُف العربي للارتفاع إلى مستوى القيادة، من خلال ارتفاعه إلى أن يكون قدوة وأنموذجا.
ما يفعله أولئك البعض من المثقفين والإعلاميين والطامحين للشهرة هو، تخليهم عن مقاومة الاستعمار الخارجي والظلم الداخلي، ونكوصهم عن كل مقاومة ضميرية أخلاقية إنسانية. هذا يطرح سؤالا هو، هل من قاع للتراجع الفكري والالتزام الأخلاقي في عالم الثقافة العربية.