بقلم د. وليد القططي
النظام السياسي لأي شعب يعيش في دولته مُستقلاً حُرّاً هو نظام الحكم فيها، الموَزّع بين مؤسسات السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، التي تتقاسم فيما بينها عملية صنع القرار السياسي الوطني. أمّا النظام السياسي لأي شعب يعيش محروماً من دولته مُحتلاً مُهجّراً، فنظامه السياسي هو مجموع مكوّنات مؤسساته الوطنية، التي يتوّزع بينها عملية صُنع القرار السياسي الوطني. والأصل في النظام السياسي في حالتي الاستقلال والاحتلال أنْ تكون بوصلته موّجهة لإنجاز مشروعه الوطني، ففي حالة الاستقلال قد يكون مشروعه إحداث نهضة اقتصادية شاملة، أو تطور اجتماعي جوهري، أو نشر رسالة حضارية ما. أمّا في حالة الاحتلال فلا يوجد مشروع وطني يسبق إنهاء الاحتلال وتحقيق الاستقلال، وهذا المشروع سيكون هو الروح التي تدب الحياة في جسد الشعب، فتُلهب حماسته، وتشحذ هممه، وتُفجّر طاقاته، وتوّحد صفوفه، وتُنير طريقه، وتصوّب بوصلته... حتى تصل سفينة الشعب إلى مرساها على شاطئ الحرية، فلماذا لم تصل سفينة الشعب الفلسطيني إلى شاطئ الحرية والعودة والاستقلال؟!، وكيف يمكن تصويب بوصلتها لتصل إليه؟!، وللإجابة على هذين السؤالين من المفيد العودة إلى ذاكرة التاريخ من حيث انطلقت السفينة حتى دخولها إلى نفق اللحظة التاريخية الحالية المُظلمة، لنبحث سوياً عن بصيص ضوء يخرجها ويخرجنا من النفق المُظلم.
أثناء الحرب العالمية الأولى وقعت فلسطين تحت الاحتلال البريطاني العسكري، وبعدها برز خطر المشروع الصهيوني على فلسطين، قاوم الشعب الفلسطيني الخطرين، وبلوّر مشروعه الوطني في هدفين: التخلّص من الاحتلال البريطاني، وإجهاض المشروع الصهيوني بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وأفرز الشعب أُطره الوطنية لتحمل مشروعه الوطني، وأهمها: المؤتمر العربي الفلسطيني، واللجنة العربية العليا، والهيئة العربية العليا، بين الحرب العالمية الأولى والنكبة، لتكون هي والأحزاب السياسية، وتشكيلات المقاومة، وقيادات العائلات، وغيرها تُمثل نظامه السياسي في مرحلة مقاومة الخطرين البريطاني والصهيوني، بالمقاومة السلمية والشعبية والمُسلّحة. ولكن النظام السياسي فشل آنذاك في إنجاز مشروع الشعب الفلسطيني الوطني، وكان إعلان قيام دولة (إسرائيل) عام 1948م هو شهادة الوفاة للمشروع الوطني آنذاك، وبداية دخول الشعب الفلسطيني في حالة الضياع والتيه بمعالمها التي حرمته من وجود نظام سياسي وطني جامع له باستثناء بعض الحركات الوطنية المُبعثّرة، وحرمته من بلورة مشروع وطني واضح له باستثناء بعض الأحلام الفردية والجمعية بالتحرير والعودة والاستقلال مغروسة في وجدان الشعب، وحرمته من الفعل الوطني الفعّال باستثناء بعض الفعاليات الرافضة لمشاريع التوطين... حتى إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية.
أُنشئت منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964م، فأصبحت بعد دخول حركات المقاومة فيها ورئاسة حركة فتح لها بعد النكسة، هي الإطار الجامع لكل مكوّنات النظام السياسي الفلسطيني في مرحلة التحرر الوطني، والحاملة للمشروع الوطني الفلسطيني، المُعبر عن طموحات الشعب وأهدافه الوطنية، والمتبنية لنهج المقاومة الشعبية الشاملة واستراتيجية التحرير الوطنية المتكاملة، فكان التطابق كاملاً بين المنظمة كنظام سياسي وطني من جهة وبين طبيعة مرحلة التحرر الوطني، ومشروع التحرير والعودة والاستقلال الوطني، واستراتيجية المقاومة التحريرية من جهة أُخرى... ولكن هذا التطابق لم يستمر طويلاً، فقد حدثت فجوة في منتصف السبعينيات عند تبني برنامج النقاط العشر على أساس مرحلية التحرير ثم مرحلية التسوية، وأخذت الفجوة بالاتساع في الثمانينيات عندما أُعلن الاستقلال على أساس تقاسم فلسطين، بفعل عوامل التعرية الوطنية القومية، الناتجة عن رياح الواقعية الثورية والانتهازية السياسية، حتى تحوّل الاتساع إلى تناقض عندما أُقيمت السلطة الفلسطينية تحت الاحتلال في منتصف التسعينيات، فأصبح المشهد الفلسطيني بنظامه السياسي ومشروعه الوطني مُعقداً ومرتبكاً، فهو خليط من مؤسسات مرحلة التحرر الوطني، ومؤسسات الدولة، بعض مكوناته داخل النظام السياسي الرسمي وبعضه الآخر خارجه، وزاد الانقسام المشهد تعقيداً وإرباكاً، والسلطة التي قيل أنها ستكون جسراً للمشروع الوطني المُعدّل أصبحت مقبرة ومأزقاً له لأنها ذهبت إلى مرحلة بناء السلطة والدولة قيل إنجاز مرحلة التحرر الوطني، واصطدمت السلطة مع كل النظام السياسي الرسمي بحائط صفقة القرن وخطة الضم وهرولة التطبيع.
المدخل للخروج من مأزق النظام السياسي الحالي لن يكون من نفس الباب الذي دخل منه الفكر السياسي بفرضياته الخاطئة التي أوصلتنا إلى هذا التناقض بين الحركة الوطنية كنظام سياسي، وبين الأهداف الوطنية للشعب كمشروع وطني. وبالتأكيد لن يكون الخروج من المأزق عبر إعادة إنتاج النظام السياسي الذي أوصلنا إلى مأزقي السلطة والانقسام. ولكن المخرج سيكون عبر الوضوح التام في تحديد طبيعة المرحلة، وطبيعة المشروع الوطني، واستراتيجية التحرير. وفي هذا السياق من المفيد تحديد بعض النقاط المهمة لتكون مُنطلقاً نحو إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني لتكون بوصلته موّجهة إلى المشروع الوطني الفلسطيني، وأولها الإقرار بأنّ فلسطين مُحتلة من البحر إلى النهر، رغم اختلاف تفاصيل الاحتلال ما بين الضفة والقطاع، وما بينهما معاً وبين فلسطين المُحتلة عام النكبة، وأنَّ السيطرة الحقيقية والسيادة الفعلية للاحتلال وكيانه رغم وجود السلطة بقسميها المُحتل والمُحاصر. وبما أنَّ الشعب الفلسطيني يعيش تحت الاحتلال أو التهجير، فطبيعة المرحلة التي يعيشها هي مرحلة الكفاح الوطني من أجل تحرير الأرض وعودة اللاجئين وإنجاز الاستقلال، وبما أن طبيعة المرحلة هي التحرر الوطني فهي التي تُحدد طبيعة المشروع الوطني بهويته الثورية وأهدافه الوطنية وركائزه الأساسية المنبثقة من التحرير والعودة والاستقلال. وكل من مرحلة التحرير ومشروع التحرر تُحددان استراتيجية التحرير بالمقاومة الشاملة وفي مقدمتها الكفاح المسلح، وهكذا فإن بناء النظام السياسي الفلسطيني في مرحلة التحرر الوطني يجب أن تكون بوصلته نحو المشروع الوطني بكل مكوناته وآلياته ووسائله، وأي أوليات بديلة هو انحراف للبوصلة الوطنية.
خُلاصة الأمر طريق الخروج من المأزق الفلسطيني الحالي شاقة وطويلة، ولكنها ستكون موّفقة إذا انطلقتا من المدخل الصحيح، وهو إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، العمود الفقري للنظام السياسي الفلسطيني في مرحلة التحرر الوطني، وهذا المدخل الذي سيوصلنا إلى المخرج الصحيح من المأزق وصولاً إلى التقدم في المشروع الوطني عندما ترسو سفينة الشعب على شاطئ التحرير والعودة والاستقلال، ومدخل بناء المنظمة ضروري لإعادة شرعيتها الشعبية عندما تكون بيتاً لكل الشعب الفلسطيني وجامعة لجميع مكوّنات حركته الوطنية، ولإعادة شرعيتها الثورية عندما تؤكد التزامها باستراتيجية التحرير المتكاملة، ونهج المقاومة الشاملة، وفي مقدمتها الكفاح المُسلّح. ولإعادة شرعيتها الوطنية عندما تُعيد الاعتبار للميثاق الوطني الأصلي الحامل لمشروع التحرير والعودة والاستقلال. وإذا تم ذلك فإن كل المؤسسات المنطوية تحت غطاء المنظمة يُمكن أن تؤدي دورها الوطني في إطار متكامل، فالسلطة بعد تغيير دورها الوظيفي تؤدي دوراً وطنياً داعماً لصمود الشعب في وطنه من خلال توفير مقومات الحياة له، والفصائل تقوم بدورها الوطني بالمقاومة التي ترفع كُلفة الاحتلال والاستيطان، والمؤسسات الأهلية تؤدي دورها الوطني من خلال تصويب أداء المنظمة والسلطة والفصائل وتعزيز قيم الحرية وحقوق الإنسان، والمنظمة تحتفظ بالدور الوطني الأهم في مرجعية الحركة الوطنية، وقيادة المشروع الوطني، وتوحيد الشعب الفلسطيني، والحفاظ على الهوية الوطنية.