من يتابع كل التصريحات الفصائلية والحزبية وبالذات لسلطتي رام الله وغزة.. يستمع لموشحات أندلسية وتصريحات نارية عن الحرص على المشروع الوطني والوحدة الوطنية وإنهاء الإنقسام ورفض الحلول المؤقتة والدويلات والكانتونات وتقديم التنازلات أو المفاوضات من أجل المفاوضات ..الخ،
وتتكرر هذه الموشحات والتصريحات بشكل يومي صباح مساء، وبالمقابل نستمع من نفس الجهات والشخوص والناطقين الرسميين باسمها وقياداتها وإعلاميها وحتى مستشار الرئيس للشؤون الدينية دخل على الخط إلى حملات من الردح والردح المضاد والإتهامات بالتخوين والتفريط والتفاوض بشكل منفرد والسعي لتشكيل بديل أو لإقامة إمارة أو دويلة في القطاع، وكذلك اتهامات ببيع القضية والقدس والأقصى وكأنها في وارد حساباتهم، فنحن نعرف أهل القدس بأن آخر ما يفكرون به القدس ودعم صمود أهلها.
وفي ظل هذه الأجواء وهذه الحالة التي تبعث على الأسى وتصيب الإنسان الفلسطيني بالغثيان والكفر بكل الفصائل والحكومات والسلطات أصبحت الساحة الفلسطينية مرتعاً خصباً لتدخلات عربية وإقليمية ودولية في الساحة والشأن الفلسطيني، تدخلات من شأنها تفكيك الساحة الفلسطينية وتدمير المشروع الوطني وإنهاء القضية الفلسطينية، تدخلات لا تهدف إلى جمع الشمل ولملمة الجراح، بل في ظل سياسة المحاور والأجندات تغلب المصالح الخاصة والجماعات على مصلحة الشعب والوطن، ونحن كفلسطينيين نسهم في ذلك، حيث الساحة الفلسطينية تعيش حالة عميقة من عدم الثقة بين مركبات ومكونات عملها السياسي والمجتمعي، ويتم النظر إلى كل خطوة أو فعل أو تحرك من هذا الطرف أو ذاك في إطار التشكيك والتخوين أو العمل المشبوه، وكل فصيل آخر أو أي قوى سياسية حزبية أو مجتمعية تتوسط بين الفريقين أو تطرح مبادرة من أجل وقف حالة النزيف الفلسطيني والتدمير الذاتي للجسد والمشروع الوطني الفلسطيني، تتهم بالتحيّز إلى هذا الطرف أو ذاك، وتشنّ عليها وعلى قياداتها وتاريخها حملة شعواء، تصل حد التشكيك والتخوين.
لم تنجح كل اللقاءات والإتفاقيات في جسر الهوّة بين طرفي الإنقسام ("فتح" و"حماس")، والذي بات يتكرّس ويطول ويتعمق ويتشرعن، ويترك الكثير من الآثار السلبية على وحدة الوطن والمجتمع، وفي استطالته وإستدامته، تنمو مصالح وامتيازات وعلاقات وإرتباطات لأناس من كلا الطرفين غير معنية بإنهائه من الدوحة لصنعاء لمكة فالقاهرة فالشاطىء والآن مطروح "مكة 2" وربما "مكة 3" و"القاهرة 5" و"قطر 6" وهكذا دواليك دون أي بارقة أمل، وكل ذلك سببه ومرده الأساس غياب الإرادة السياسية وتغليب المصالح العليا للشعب الفلسطيني على المشاريع والأجندات الفئوية والخاصة، وكل طرف يريد أن يتسيد ويقود الساحة بدون شراكة مع الآخر، إما أنا وإما الطوفان، وهم يستخدمون المتغيرات والتحالفات العربية والإقليمية والدولية خدمة لمشاريعهم وبرامجهم السياسية وليس خدمة للمصلحة والمشروع الوطني، رهانات مع كل تبدّل وتغيّر لكي يتمسّك كل طرف بوجهة نظره ومشروعه ورؤيته، فحكومة ما يسمى بـ"الوفاق الوطني" التي تشكلت لمعالجة هموم قطاع غزة من حصار وعدم دوران عجلة الإعمار وفتح للمعابر والتحضير لإنتخابات تشريعية ورئاسية، حتى هذه اللحظة لم تقلع وتدور في حلقة مفرغة، والكل يوجّه لها الإتهامات، فـ"حماس" تتهمها بأنها لا تولي مشاكل القطاع أي اهتمام، ولم تعمل على حلّ أي مشكلة من مشاكل القطاع الحياتية والمعيشية والإجتماعية، وكذلك المشكلة الأساسية رواتب موظفي سلطة "حماس" الـ(40) ألف، وأخفقت الزيارات التي قام بها وزراء حكومة الوفاق بما فيهم رئيس وزرائها في أي لحلحة للأمور، حتى إن "حماس" فرضت ما يشبه الإقامة الجبرية على وزراء تلك الحكومة الذين قدموا إلى قطاع غزة في زيارتهم الأخيرة ومنعتهم من التواصل مع وزارتهم وموظفيها في القطاع، متهمة إياهم بخرق التفاهمات التي جرت بين رئيس الوزراء وحكومة "حماس"، وبالمقابل حكومة الوفاق والسلطة الفلسطينية وجهت اتهامات لـ"حماس" بأنها لا تريد تمكين حكومة الوفاق من السلطة في قطاع غزة والسيطرة على المعابر والأجهزة الأمنية وغيرها.
في ظل هذه الحالة ومع تفاقم أزمة حكومة "حماس" السياسية والمالية، بسب عدم أي لحلحة في قضايا رفع الحصار ودوران عجلة الإعمار وفتح المعابر وأزمات الفقر والبطالة والجوع والكهرباء والماء والصرف الصحي، باتت غزة كبرميل بارود سينفجر في أي لحظة لتطال تداعياته ليس "حماس" وقطاع غزة، بل كل الساحة الفلسطينية، حيث وجدنا بأن هناك أطرافاً عربية (قطر) وإقليمية (تركيا) ودولية (سويسرا وروسيا) وحتى الأمم المتحدة روبرت سيري وأمين عام الأمم المتحدة بان كي مون والرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، تدخلت وطرحت مبادرات على حركة "حماس" من أجل إيجاد حلول تمنع من حالة الإنفجار، وعنوان تلك الحلول والمبادرات "تهدئة مقابل إعمار".. وجرى تناقل أخبار عن مشروع اتفاق برعاية قطرية – تركية – سويسرية بين "حماس" و"إسرائيل"، تهدئة طويلة الأمد من 5-15 ورفع للحصار ودوران عجلة الإعمار وإنشاء ميناء مراقب من حلف الناتو ووقف الأعمال العدائية، على أن تلتزم "حماس" بعدم تهريب السلاح وحفر الأفاق وإنتاج الصواريخ.
في ذروة الحديث عن تلك الاتصالات بين حماس و"إسرائيل" اشتعلت الساحة على نحو غير مسبوق في التراشق الإعلامي وإتهامات بين حماس والسلطة الفلسطينية، ولتصل الأمور لاتهام الرئيس الفلسطيني محمود عباس "إسرائيل" وحماس بإجراء اتصالات في إطار ما تعتبره منظمة التحرير التفافاً على المشروع الوطني. وتسود قناعات في صفوف عدد من فصائل منظمة التحرير، وخصوصاً حركة "فتح"، بأن "إسرائيل" تسعى للفصل بين الضفة والقطاع، وتعمل على إنشاء دولة في غزة حتى يسهل فرض الحكم الذاتي في الضفة الغربية. وليس هذا فقط بل مستشار الرئيس للشؤون الدينية الهباش في خطبة الجمعة شنّ حرباً شعواء على حركة حماس، وصلت حد تخوين من يقومون بالإتصالات والتفاوض مع "إسرائيل" من خارج إطار منظمة التحرير وبدون موافقة الرئيس عباس.
نحن ندرك بأن هناك الآن صراع ضاري يجري بين فتح وحماس على كعكة سلطة خالية من الدسم حتماً ستقودنا إلى كارثة حقيقية، كارثة ثمنها تفكك المشروع الوطني ومرتكزاته الأساسية القدس واللاجئين والدولة الفلسطينية المستقلة.. وتعمّق حالة التيه والضياع وفقدان البوصلة.