د. محمد السعيد إدريس
قد يعتقد البعض، عن سوء تقدير لحقيقة "الحالة الصراعية" التى تخوضها إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948 وحتى الآن لفرض وتثبيت وجودها كدولة طبيعية على أرض فلسطين، أن المهام الثلاث، أو بالأحرى، "المعارك الثلاث" التى اتفق عليها بين كل من بنيامين نتنياهو زعيم حزب "الليكود" وبينى جانتس زعيم حزب "حوسين ليسرائيل" (حصانة لإسرائيل) كأساس لتشكيل هذا التحالف الحكومى هى معارك منفصلة كل منها عن الأخرى وهى: معركة تنفيذ صفقة ترامب بالشروع الفعلى والسريع بضم غور الأردن والكتل الاستيطانية اليهودية المقامة بالضفة الغربية المحتلة ابتداء من يوليو المقبل، ومعركة التوسع فى تطبيع العلاقات بين إسرائيل والعرب لتتجاوز إطارها الرسمى إلى الإطار الشعبى العربى الأرحب، ومعركة القضاء على الخطر الإيرانى باعتباره "تهديداً وجودياً" لإسرائيل وليس لأمنها فقط،. فالحقيقة المؤكدة أنها معارك متصلة ومتشابكة وتخدم كل منها الأخرى، بمعنى أن أى نجاح، ولو جزئى فى أى من هذه المعارك الثلاث سوف يخدم حتماً المعركتين الأخريين. ولعل هذا ما يبرر أهمية التعويل الإسرائيلى على الدور الأمريكى فى خوض هذه المعارك الثلاثة التى يجرى الترويج لكسبها باعتبار أن الانتصار فيها سيكون إعلاناً بـ "الانتصار الإسرائيلى النهائى".
نستطيع أن نقدم هنا عشرات المؤشرات التى تؤكد جدية هذا الفهم الإسرائيلى لمحورية الترابط والتشابك بين هذه المعارك الثلاث. من أبرز هذه المؤشرات مثلاً ما كتبه "آفى برئيلى" فى أبريل الفائت ونشرته صحيفة "إسرائيل هيوم" الموالية لبنيامين نتنياهو وقال فيه أن بسط القانون الإسرائيلى على غور الأردن (معركة ضم الغور والكتل الاستيطانية) هو عمل حيوى للغاية لغرض "اقتلاع الأمل الفلسطينى بإلغاء الدولة القومية اليهودية". واعتبر هذا الكاتب أن "إحباط هذا الأمل شرط لازم لفرض التسوية التى تريدها إسرائيل مع الفلسطينيين" وبرر ذلك بأن أى مراجعة لتاريخ المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين على مدى ثلاثين عاماً مضت تثبت أن السبب الأساسى لفشلها هو ما أسماه بـ "الآمال الهدامة للحركة الوطنية الفلسطينية"، التى تتمسك بحق العودة الفلسطينية وتؤمن به وترى فى إسرائيل "مشروعاً طارئاً مآله إلى زوال"، القضاء على هذه "الآمال الهدامة" من وجهة نظر هذا الكاتب هو السبيل لفرض السلام الذى تريدع إسرائيل .
هكذا يؤكد هذا الكاتب، ما يمكن اعتباره القاسم المشترك الأعظم بين الإسرائيليين أو "المرتكز الأساسى للفكر الإستراتيجى الإسرائيلى" وهو أن تثبيت وجود إسرائيل كدولة طبيعية ومعترف بها عربياً لن يحدث فقط بالأمن والقدرات العسكرية والنووية والتفوق التكنولوجى على كل العرب بل سيحدث عندما يتم "اقتلاع الأمل الفلسطينى والعربى بـ (زوال إسرائيل)"، لذلك هو يرى أن قرار ضم غور الأردن بالتحديد وفرض السيادة الإسرائيلية عليه وجعله الحدود الشرقية للدولة "اليهودية" لا تفرضه فقط الاعتبارات الأمنية والإستراتيجية التى تتعلق بتأمين الجبهة الشرقية للدولة "اليهودية" رغم أهميتها القصوى ولكن تفرضه أيضاً الاعتبارات المعنوية، وما يمكن أن يؤدى إليه نجاح إسرائيل فى هذه المهمة من "اقتلاع الأمل" الفلسطينى بشقيه: زوال إسرائيل من ناحية، والعودة الفلسطينية من الناحية الأخرى. وهكذا تترابط معركة تنفيذ الشق المحورى فى "صفقة ترامب" الخاص بضم غور الأردن والكتل الاستيطانية الإسرائيلية فى الضفة الغربية مع معركة فرض إسرائيل كدولة طبيعية على أرض فلسطين.
فالمعركة التى تعتزم إسرائيل خوضها فى السنوات القليلة المقبلة لفرض إسرائيل "دولة طبيعية" على أرض فلسطين ستكون أهم المعارك وستبقى مرهونة بالنجاح فى المعركتين الأخرتين: معركة فرض المرحلة الأولى من مشروع "إسرائيل الكبرى" كما سبق أن تحدث عنها البرنامج الإنتخابى لحزب الليكود الذى يقوده نتنياهو، أى معركة فرض السيادة الإسرائيلية على كل أرض فلسطين من النهر إلى البحر (من نهر الأردن شرقاً إلى البحر المتوسط غرباً) ومعركة القضاء على ما يسميه الإسرائيليون بـ "الخطر الإيرانى" أحياناً، أو "الخطر الشيعى" فى أحيان أخرى، والمقصود تحديداً هو "اقتلاع جذور خيار المقاومة" على كل الأرض العربية، أى تصفية كل ما بقى من بؤر رافضة للاعتراف بأن إسرائيل "دولة طبيعية".
بهذا المعنى نستطيع أن نقول أن "معركة فرض إسرائيل دولة طبيعية" والتى يجرى التعبير عنها إعلامياً باسم "معركة التطبيع"، هى معركة ذات شقين؛ الأول هو اقتلاع الأمل فى عودة فلسطينية نهائياً من العقل الفلسطينى والعربى، وربما العالمى بالتبعية، ومعركة "غسل السمعة" الإسرائيلية، أى اختراق العقل العربى وإجباره على نسيان كل الجرائم التى ارتكبت بحق الشعب الفلسطينى وبحق الشعب العربى خاصة فى دول الجوار العربى لكيان الاحتلال الإسرائيلى التى كانت تسمى يوماً بـ "دول الطوق" أو "دول المواجهة": مصر وسوريا والأردن ولبنان لإقتلاعه من أجل أن "تنتصر إسرائيل" ونسيان كل الحقوق المشروعة والمؤكدة والمعترف بها دولياً للشعب الفلسطينى وفى مقدمتها حقه الشرعى فى تقرير المصير وحقه فى إقامة دولته المستقلة ذات السيادة على كامل الأرض التى احتلت فى عدوان يونيو عام 1967 على أقل تقدير، ناهيك عن حقه الشرعى فى وطنه الذى سلب منه على حدوده التاريخية كما هى مثبتة فى وثائق الانتداب البريطانى على فلسطين.
هذه المعركة يسمونها فى إسرائيل بـ "معركة كى الوعى العربى" أى إجبار العقل العربى على أن ينسى كل الجرائم ويتغاضى عن كل الحقوق وأن ويقبل فقط بما هو مفروض عليه أن يقبله: لا يوجد شئ اسمه فلسطين فقط توجد حقيقة اسمها إسرائيل. ولعل هذا ما يفسر أسباب إعلان جيش الاحتلال الإسرائيلى أن "الحرب على وعى الجمهور العربى باتت مركباً أساسياً فى إستراتيجية الأمن القومى الإسرائيلية".
ولقد أعطى تدافع بعض الدول العربية مؤخراً للتقارب مع إسرائيل والتحالف معها، لأسباب كثيرة، زخماً هائلاً للإسرائيليين لكسب معركة اختراق العقل العربى وكى وعيه وإجباره، ضمن عملية "غسيل دماغ جهنمية"، على نسيان كل الجرائم الإسرائيلية وكل الحقوق العربية من ناحية والقبول بذات الوقت ليس فقط بإسرائيل دولة طبيعية بل بإسرائيل "دولة منتصرة"، على النحو الذى عبر عنه أحد الإسرائيليين فى تعليقه على مسلسل درامى بثته إحدى القنوات الفضائية العربية فى شهر رمضان المبارك (مسلسل أم هارون).
فتعليقاً على مقال نشره موقع "سيحا حكوميت" الإسرائيلى بعنوان "المعركة على الوعى" يتناول بالتحليل ذلك المسلسل الدرامى المتعاطف مع قضية اليهود الذين نزحوا من دول عربية إلى إسرائيل بعد نكبة 1948 جاء بهذا التعليق: "هذا ليس تطبيعاً، هذا اعتراف بالواقع وخيبة الأمل العربية، العالم العربى يعترف بحقيقة الفجوة الهائلة بينه وبين إسرائيل عسكرياً وتكنولوجياً، وكلمة (التطبيع) هذه هدفها التخفيف من وقع صدمة الحقيقة، هى نوع من (غسيل الكلمات). فى واقع الأمر هذا استسلام أمام دولة إسرائيل. فليسموا (العرب) هذا ما يريدون، وليحاولوا غسيل الكلمات والمعنى والمفاهيم فقط بغرض تنظيف شرفهم العربى. دولة إسرائيل انتصرت وهذه هى حقيقة منتهية".
هذه هى الحقيقة التى يريدونها ويفهمونها لـ "معركة التطبيع": "إستسلام عربى وانتصار إسرائيلى"، وعلى الرافضين لهذه الحقيقة خوض معركة إسقاطها بإعادة تثبيت الأمل والتصدى لمخطط اقتلاعه .