راسم عبيدات واضح بأن الإحتلال في المعارك التي يفتحها ويخوضها ضد وجودنا العربي الفلسطيني في المدينة المقدسة يراهن على ضعف إرادة الصمود والبقاء لدينا، ولذلك هو في كل معركة يخوضها ضدنا، يختبر مدى قدرة هذه الإرادة على الصمود والمقاومة..
وعندما يهزم في معركة فإنه يستخلص الدروس والعبر من تلك المعركة، ويتراجع عن مخططاته مؤقتاً انتظاراً لمعركة قادمة تمكنه من تفريغ النصر من مضمونه، والإستعداد لشنّ معركة أشرس وأكثر عنفاً وإرهاباً.. ومعركة فرض الضرائب على المؤسسات الكنسية أتت في ظرف أكثر خطورة لما كانت عليه معركة المجابهة والتصدي لإفشال وضع البوابات الإلكترونية على أبواب المسجد الأقصى في تموز 2017، والتي أتت ضمن مشروع سياسي متدحرج يستهدف السيطرة الكاملة على المسجد الأقصى.
معركة فرض الضرائب على المؤسسات الكنسية، أتت في ظل "تغول" و"توحش" صهيوني وشنه لحرب شاملة على شعبنا الفلسطيني عامة والمقدسي خاصة، حيث شكّل قرار الرئيس المتطرف ترامب اعتبار القدس المحتلة عاصمة لدولة الإحتلال غطاءً ومبرراً لهذا الإحتلال، لكي يقوم بسنّ الكثير من التشريعات والقوانين والقرارات التي تهود المدينة وتصفي الوجود العربي الفلسطيني فيها، متبعاً ذلك بخطوات عملية على الأرض.. والإحتلال الذي تراجع عن وضع البوابات الإلكترونية على بوابات المسجد الأقصى نتيجة لتوحد وصمود المقدسيين بكل مكوناتهم ومركباتهم سياسية وطنية دينية مجتمعية جماهيرية وشعبية، وجدنا أنه سعى لتفريغ الإنتصار المقدسي من مضمونه، حيث قام بشكل متدرج بنصب مئات الكاميرات الحساسة والمزودة بمجسات تجسسية، ليس خارج البلدة القديمة ومحيطها، وفي بوابة دمشق الشهيرة، بوابة الشهداء، والتي تتعرض لأشرس حملة احتلالية، من حيث عسكرتها ونصب المنصات واقامة الأبراج العسكرية وبناء الغرف في مدخلها، غرف يحتجز فيها الشبان والفتيات وتجري عملية التنكيل بهم وتفتشيهم بطرق مذلة ومهينة ومنتهكة لخصوصية الجسد ولكرامة الإنسان، والهدف تغيير الطابع التاريخي للمدخل وإحكام سيطرة قوات الإحتلال وأجهزتها عليه والتحكم في الكم البشري الداخل والخارج من المدينة، وبث الرعب والخوف في صفوف المقدسيين وزوار القدس وبلدتها القديمة، وبما يشل الحركة الإقتصادية التجارية والسياحية في المدينة، وجعل المسجد الأقصى مكشوفاً أمام المستوطنين، بإحجام أعداد كبيرة من المصلين من الوصول إليه عبر بوابة الذل والموت.
معركة الأقصى حسمتها الكتلة البشرية الواسعة والتواصل والإستمرارية والنشاطات الشعبية السلمية بالإعتصام لمدة أربعة عشر يومياً على أبواب المسجد الأقصى وفي ساحات المدينة، حيث حوّل المقدسيون سجاجيد صلواتهم إلى شكل من أشكال المقاومة، كما أن وسائل الإعلام لعبت دوراً بارزاً في فضح وتعرية الإحتلال، ونشر الحقائق المغتالة على الملأ، وكذلك التوحد الميداني والشعبي والقيادى قاد إلى تحقيق مثل هذا الإنتصار، في حين كانت العوامل الخارجية من أنشطة وفعاليات ومؤتمرات ولقاءات وتظاهرات في البلدان العربية والإسلامية عاملاً مساعداً لا حاسماً في تحقيق هذا النصر.
أما معركة فرض الضرائب على المؤسسات الكنسية تحت حجج وذرائع أن لديها عقارات تستخدم لأغراض تجارية وليس دينية للصلاة والطقوس الدينية والتعليم المرتبط بالعبادة، وبالتالي فرض على 887 عقار كنسي ما يزيد عن 650 مليون شيكل وطلب من الكنائس الدفع بأثر رجعي منذ عام 2010، في مخالفة واضحة وصريحة لـ"الستاتيكو" المعمول به منذ زمن الدولة العثمانية (1757) والذي ينظم العلاقة بين الدولة المدنية والمؤسسات الكنسية، بما لا يفرض أية ضرائب على المؤسسات الدينية، وجاءت اتفاقية باريس (1856) واتفاقية برلين (1878) لتؤكد على ذلك، وكذلك لجنة تقصي الحقائق التي جاءت لفلسطين وقرار التقسيم أكدتا على خصوصية الوضع القائم وعدم المس بالأماكن الدينية، وأيضاً سلّم مندوب دولة الإحتلال في الأمم المتحدة في 8111946 رسالة يؤكد فيها التزام حكومته بالوضع القائم للأماكن المقدسة وعدم المس بها، والإتفاقية الأساسية الثنائية بين الكرسي الرسولي ودولة الإحتلال عام 1993 تأكد على الإلتزام بالبند 4 (ا) الذي ينص على احترام الوضع التاريخي والقانوني للكنائس والأماكن الدينية.
ولكن حكومة الإحتلال الممعنة في التطرف والعنصرية وعدم الإعتراف بوجود وحقوق الآخر، وبأن قرار المتطرف ترامب، وحالة الإنهيار والتعفن التي يعانيها النظام الرسمي العربي، والذي جزء منه ليس بالبسيط "متهافت" على تطبيع علاقاته مع دولة الإحتلال بشكل علني ومشرعن، وضعف حالة الفلسطينية المنشطرة والمنقسمة على ذاتها، وإنشغال العالم عن القضية الفلسطينية بقضايا عربية وإقليمية اخرى، تمكنها من تهويد مشهد المدينة مكاناً وفضاءً ووجوداً وديانةً وتاريخاً وثقافةً وتراثاً وآثاراً.
ولذلك كان قرار بلدية الإحتلال والمستوى السياسي الإسرائيلي بفرض الضرائب على المؤسسات الكنسية، والهدف هنا واضح ممارسة التطهير العرقي والتفريغ للبلدة القديمة من الوجود العربي المسيحي، وخصوصاً بأن جزءًا من أملاك الكنيسة العربية الأرثودكسية في القدس صفقة باب الخليل وبيت المعظمية وغيرها من العقارات الأخرى، قد جرى بيعها وتسريبها، أو تاجيرها لمدد طويلة جداً لجمعيات وشركات إستيطانية وتوراتية، من قبل البطاركة اليونان من ايرينوس إلى ثيوفيوليس الثالث، وبالتالي فالتربة خصبة لإستكمال الإستيلاء والتطهير، فالضرائب الباهظة المفروضة على الكنائس قد تجبرها إما على البيع، أو استيلاء إسرائيل عليها وبيعها بالمزاد العلني، وفي كلا الحالتين تحقق الهدف الإسرائيلي بالتطهير العرقي للوجود العربي المسيحي.
وأمام هذه الهجمة المسعورة أعلن بطاركة الروم واللاتين والأرمن عن إغلاق كنيسة القيامة يوم الأحد 2522018 في وجه الزوار والحجاج والمصلين إلى إشعار آخر، ومن بعد ثلاثة أيام تراجعت إسرائيل جزئياً عن قراراها، بحيث تجمد قرار تحصيل الضرائب من المؤسسات الكنسية، وليس الإلغاء، على أن يترافق ذلك مع تشكيل لجنة مهنية يقودها المتطرف تساحي هنغبي بمشاركة وزراء المالية والداخلية والخارجية ورئيس بلدية الإحتلال، للدخول في مفاوضات مع الكنائس لرسم خارطة طريق لكيفية تسديد الضرائب "الأرنونا" على المؤسسات الكنسية غير الدينية، وهذا بحد ذاته يشكل إنتصاراً لحكومة وبلدية الإحتلال، وتخلي عن حق شرعي و"طابو" منصوص عليه في الإتفاقيات الدولية، "الستاتيكو" المعمول به منذ عام 1752، وهنا الخطورة أن تؤدي المفاوضات إلى إنهاء "الستاتيكو" الدولي وخلق "ستاتيكو" جديد، ولا ننسى بأن فريق إسرائيل المهني للتفاوض مع الكنائس يرأسه المتطرف هنغبي الذي قاد مفاوضات الإعتراف بثوفيوليس بطركاً عام 2007، ولذلك كما قال الباحث والمحلل السياسي أليف صباغ نحذر من خطورة، بأن طلب رؤساء الكنائس، وموافقة رئيس الحكومة، أن تبحث هذه اللجنة مع رؤساء الكنائس قضية العقارات التابعة للكنائس، التي بيعت لجهات إسرائيلية أو ستباع في المستقبل، هو أمر يثير القلق إلى حد كبير، وعليه وجب التحذير من احتمال بيع عقارات جديدة مقابل سداد ديون سيتم الاتفاق على دفعها، عندها سيخرج رؤساء الكنائس "منتصرين"، أيضاً، ومدعين بأنهم دفعوا أقل بكثير مما طالبت به البلدية ولكنهم كانوا "مضطرين" إلى بيع عقارات تابعة للكنيسة لسد الديون..!
أما النتيجة الأخطر لهذه المفاوضات، فتتمثل في خلق اتفاقيات جديدة، بديلة للاتفاقيات الدولية، بين سلطات الاحتلال الإسرائيلي وبين رؤساء الكنائس، وهذه الاتفاقيات الجديدة لا بد أن تشمل أو تعني اعترافا رسمياً من قبل رؤساء الكنائس بالسيادة الإسرائيلية على القدس المحتلة، بما في ذلك الكنائس. وعليه أعتقد أن هذا الهدف كان قد وُضِع على جدول أعمال الحكومة الإسرائيلية بعد إعلان ترامب وهو أحد الإجراءات المترتبة على إعلان ترامب لتجسيد السيادة الإسرائيلية على القدس المحتلة، وقد جاءت الفرصة لتحقيقه، وقد يلحق ذلك إجراءات مشابهة فيما يخص مؤسسات الأمم المتحدة.
المعارك القادمة على الأقصى والكنائس ستكون أشرس وأشد ضراوة، فالمحتل يريد أن يفرض سيادته الكاملة على المدينة بما فيها الأقصى والقيامة، وترجمة ما ورد في صفقة القرن إلى حقائق على الأرض، ولذلك المطلوب الحذر والإنتباه الشديدين، فما يجري جداً خطير، وسنجد أنفسنا إذا ما فقدنا البوصلة والإتجاه والوحدة أمام حقائق ووقائع جديدة سيطرة إسرائيلية وسيادة كاملة على الأماكن الدينية تلغي مسؤولية الأوقاف وإدارته للأقصى، وكذلك تنزع الوصاية الأردنية عن الأماكن الدينية والمقدسات في مدينة القدس.