عبدالحليم قنديل
جاء في الأثر، أن الخطأ الشائع أقوى من الصواب المهجور، وقد تسري القاعدة المذكورة في تاريخ تطور اللغات، والتغيرات في التصاريف والنحو والمعاني والألفاظ، ولا يبدو في ذلك من عجب، فاللغات كائنات حية، تتأثر كثيرا بما يجري على ألسنة الناس، وبما يستجد في المعايش وطرق التعبير، وكل ذلك مفهوم ومقدر، لكن غير المفهوم وغير المقدر، أن تزحف قاعدة «هجر الصواب» على معاجم القضايا لا معاجم اللغات، وأن يجرى استخدام تعبيرات بالغة الخطورة والخطأ وعظيمة التزوير، كالإلحاح الفج على استخدام وتداول تعبير «تصفية» لصق القضية الفلسطينية، وكأننا بصدد نزاع عائلي، لا صراعا تاريخيا ممتدا، أو كأن الفلسطينيين صاروا هنودا حمرا أو يكادون.
لا نتحدث هنا عن أمنيات، ولا عن صواب قديم نخشى هجره، بل نتحدث عن صواب عميق الجذور في اللحظة التي نحياها، فلم تكن القضية الفلسطينية عصية على «التصفية» كما هي الآن، رغم كل ما جرى، بل بسبب كل ما جرى بالذات، فلا «صفقة القرن» ولا ألف مثلها، ولا مبادرة سلام توصف زورا بأنها «عربية»، ولا معاهدات عار عقدت لإسرائيل مع نظم عربية رسمية، ولا عورات «اتفاق أوسلو» وتوابعه، ولا الضعف الراهن للهيكل القيادي لحركة الفلسطينيين الوطنية، لا شيء من ذلك، ولا مما يشبهه، مما توالى كالمطارق على رأس الأمة وشعبها الفلسطيني، لا شيء على الإطلاق، يمكن أن يعني أو يسوغ استخدام تعبيرات رذيلة، من نوع «تصفية» القضية الفلسطينية، ولسبب بسيط ظاهر، هو أن القضية لها شعب يحميها بعد الرب، والشعب الفلسطيني ليس لفظة عابرة، ولا جملة اعتراضية، بل هو حقيقة الحقائق، فقد تزول النظم والسلطات والمنظمات، ويبقى الشعب الفلسطيني حيا على الدوام، بل تزداد حيويته مع توالي النوائب وتتابع النكبات، ويلد الجند والشهداء والأغاني.
وليس الشعب الفلسطيني ولا أي شعب آخر، من جنس الملائكة، لكن الشعب الفلسطيني امتاز عن شعوب كثيرة، وتعرض لتجربة معاناة قاسية، وابتلي بنوع همجي من الاستعمار الاستيطاني الإحلالي، تلفع بعباءة الأساطير والخرافات التوراتية، وسانده الاستعمار البريطاني والفرنسي القديم، ثم اندمج استراتيجيا مع الاستعمار الأمريكي الجديد اللاحق، وتخلت الأنظمة العربية الرسمية تباعا عن مواجهته، ثم سقطت أهم هذه الأنظمة في وحل خدمة كيان الاغتصاب الإسرائيلي، وكل ذلك جرى ويجري، ولكن دون أن يحقق الاستعمار الاستيطاني الإحلالي هدفه النهائي، فلا ينجح استعمار ولا احتلال من النوع الاستيطاني، إلا أن ينجح في «تصفية» وجود السكان الأصليين، إما بالطرد أو بالقتل الجماعي، كما جرى مثلا للهنود الحمر في الأمريكيتين بعد اكتشافات كولومبوس، أو كما جرى في أستراليا، وهو ما لم يحدث، ولن يحدث أبدا في حالة الشعب الفلسطيني، صحيح أنه جرت موجة طرد كبرى للفلسطينيين في حرب 1948، وجرى اقتلاع قرابة 800 ألف فلسطيني من مدنهم وقراهم، بعد ارتكاب الصهاينة لقرابة السبعين مجزرة، وأتوا بالمستوطنين اليهود من شتات الدنيا، وأقاموا المدن والقرى والمزارع والمصانع على أنقاض حياة الفلسطينيين، لكن الشعب الفلسطيني لم يختف بالمقابل، رغم احتلال كيان الاغتصاب الإسرائيلي لما تبقى من فلسطين في حرب 1967، فبعد أكثر من سبعين سنة على إعلان دولة لكيان الاغتصاب، وبعد أكثر من خمسين سنة على احتلال القدس والضفة وغزة، بعد مرور كل هذا الزمن، وتكاثر فواجعه، لا يبدو أن هدف الاحتلال الاستيطاني قد تحقق، بل يبدو أبعد عن التحقق من أي وقت مضى، ففي وقت نكبة 1948، كان الفلسطينيون ينخلعون أو يخلعون من أرضهم المقدسة، بينما هم الآن ينغرسون في الأرض ذاتها، وبعمق وكثافة غير مسبوقة طوال السبعين سنة الماضية.
ومجددا، لسنا هنا بصدد الحديث عن أمنيات ولا أحلام، بل عن حقائق صلبة كبرى، هي التي تصنع التاريخ المقبل، رغم غبار اللحظة وإحباطاتها، التي تصور للبعض وهما، أن القضية الصهيونية، إن كانت هناك قضية أصلا، تعيش أعظم انتصاراتها وذروة نجاحها، بينما الحقيقة الباردة تقول وتؤول إلى العكس تماما، وتنتهي إلى استنتاج لا مفر من تأمله، فالقضية الصهيونية المزورة هي القابلة للتصفية لا القضية الفلسطينية، فهب أنك لست عربيا ولا مسلما ولا مسيحيا، ولا تربطك صلة عواطف ولا مبادئ بالحق الفلسطيني، وأنك فقط تراقب ما جرى ويجري، وبعين طائر سابح فوق مجرى الحوادث، فماذا ترى في محصلة حرب السبعين سنة؟ زعمت القضية الصهيونية المزورة أنها تقيم وطنا قوميا ليهود العالم في فلسطين بكاملها، وجندت دعم الغرب كله لجلب اليهود إلى فلسطين، وتوالت موجات التهجير اليهودي، أو المنتحل لصفة اليهود، وكان آخرها موجة تهجير «اليهود السوفييت»، بعد تهجير يهود الفلاشا الإثيوبيين، ثم توقفت موجات التهجير أو كادت، فلم تعد من كتلة يعتد بوزنها من يهود العالم خارج فلسطين المحتلة، سوى يهود أمريكا، وهؤلاء لا يريدون الذهاب إلى كيان الاغتصاب، ويكتفون بتقديم الدعم المالي والسياسي للصهيونية، ويقنعون بصهيونية «دفتر الشيكات» على حد تعبير المفكر المصري الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري، ومعنى ما تقدم ببساطة، أن مخازن التهجير اليهودي نفدت قابليتها أو كادت، وأنه لم يعد ممكنا رفد المشروع الصهيوني بمادة بشرية جديدة، تحل محل الفلسطينيين المطلوب طردهم من أرضهم، وهنا جوهر المأزق الذي يصادف المشروع الصهيوني الاستيطاني الإحلالي، فعدد الفلسطينيين يتزايد في المقابل، وباطراد ملحوظ وثبات مذهل فوق أرضهم المقدسة، وعدد الفلسطينيين في وطنهم المحتل بكامله الآن، يفوق عدد اليهود المجلوبين بأجيال تناسلهم، وفي مدى عقدين أو ثلاثة عقود مقبلة، سوف يصبح الفلسطينيون أغلبية سكانية ساحقة فوق أرضهم، بفوارق معدلات الإنجاب لصالحهم، بينما يتحول اليهود إلى أقلية متحكمة بالنار والحديد والقنابل الذرية، تماما كوضع المستوطنين البيض في جنوب أفريقيا، قبل أن تنتهي قصة الحكم الاستيطاني العنصري، وينتصر السود والملونون بقيادة مانديلا ورفاقه.
والمعنى مجددا، أن «دولة إسرائيل»، قد لا تكمل القرن على إعلان وجودها الأول في 1948، وهي في طبعتها الحالية نفسها، وبما يهدد بنهاية إسرائيل كما حلم بها الصهاينة الأوائل، وهو ما قد يفسر جزئيا تزايد نزعات اليمين الصهيوني القومي والديني في كيان الاغتصاب الإسرائيلي الحاضر، فهي تعبر عن تفاقم مشاعر الخطر والفزع الغريزي من كثافة الحضور الفلسطيني في الأرض المقدسة، وتتصور أنها تدفع الخطر بعيدا، بضم القدس و«الضفة الغربية» المعروفة عندهم باسم «يهودا والسامرة»، وهي مركز الأساطير والخرافات التوراتية، بينما اليمين المنكود يجلب المزيد من الخطر، وحيث يتصور أنه يدفعه ويقضي عليه، فقد كانت فكرة إقامة دولة فلسطينية في الضفة وغزة والقدس، تجاور «إسرائيل» ولا تندمج فيها، كانت الفكرة اجتهادا وخيارا مفضلا ليسار الصهيونية، وبهدف الحفاظ لأطول مدى ممكن على أغلبية يهودية في «دولة إسرائيل»، ثم تداعت الفكرة مع تداعي نفوذ اليسار الصهيوني، وسيادة اليمين المعبر عن مخاوف متزايدة في الوجدان الجمعي الإسرائيلي، مصدرها الرئيسي كابوسي بامتياز، وهو انتصار الفلسطينيين في «حروب غرف النوم» كما حذر الديموغرافيون الإسرائيليون مبكرا، وتزايد كثافة الفلسطينيين السكانية فوق الأرض المقدسة وخارجها، فعدد الفلسطينيين الآن، في الوطن المحتل، وفي ملاجئ الشتات، أكبر من عدد اليهود في العالم كله، ومع فارق لا يخفى، هو أن اليهود يتعرضون لما يسميه الديموغرافيون ـ علماء السكان ـ ظاهرة «انقراض الشعب اليهودي»، فالديانة اليهودية كما تعرف مغلقة، وليس فيها دعوة ولا تبشير ديني، ولا إضافات لمؤمنين جدد، وهو ما يضفي معنى عالميا على المواجهة الفلسطينية ـ الإسرائيلية الراهنة، فلا يتمتع الفلسطينيون فقط بتفوق عددي، بل بحيوية مضافة متضاعفة الأثر، فقد خلقتهم المحنة خلقا جديدا، وتعلموا من عدوهم قبل الأشقاء والأصدقاء، وصار الشعب الفلسطيني أكثر الشعوب العربية تعليما، وهو الأوسع انتشارا بامتياز على خرائط العالم الغربي المتمدن، وبما أضاف إليه خبرات رائعة، مكنت طلائعه المثقفة والقادرة، من خلق أطر تضامن واسعة لدعم كفاح الشعب الفلسطيني في الداخل، وعلى نحو ما يبدو في عواصم أوروبا الغربية وأمريكا اللاتينية بالذات، وإلى حد بدت معه الصورة الراهنة للقضية الفلسطينية، وكأن الفلسطينيين في الشتات وحدهم، هم الذين يدعمون قضية شعبهم فوق الأرض المقدسة، بعد تخلي الأشقاء والأصدقاء القدامى، وانهيارات النظام العربي الرسمي، وتفشي الحروب الأهلية في أقطار عربية مؤثرة، وترك الشعب الفلسطيني وحيدا فريدا، وتلك حالة لم تولد اليوم، بل تقادمت عليها ثلاثة عقود على الأقل، بدا فيها الشعب الفلسطيني عند أفضل ظنون المناصرين لقضيته، وتوالت انتفاضاته الشعبية والمسلحة، رغم الحصار والخذلان، وأثبت أن قضيته لا تقبل المحو ولا التصفية.
وبالجملة، لا يصح لأحد، ولو حتى بحسن النية، أن يردد لفظة «تصفية» القضية الفلسطينية، فهذه «التصفية» مجرد خرافة لفظية منبتة الصلة بالواقع العيني الحي، وهي «تصفية» مستحيلة، فلا تصفى قضية ولا تذوي، إلا أن يصفى أو يذوي شعبها، والحارس الأهم للقضية الفلسطينية هو الشعب الفلسطيني، حتى لو تركوه وحيدا في غياهب الجب، متحررا من إثمنا وضعفنا وقلة حيلتنا وهواننا على القوم الظالمين.
عن صحيفة القدس العربي اللندنية