أنطوان شلحت
في غمرة الانشغال بماهية المفاصل الرئيسية للسياسة الإسرائيلية، الخارجية منها والداخلية، لا يتم الالتفات على نحو كافٍ إلى إشاراتٍ قويةٍ، تشي بظواهر آخذة بالرسوخ في أعماق مجتمع دولة الاحتلال، فيها ما قد يُنبئ بوجهةٍ يسرّع الخطى نحوها. ومن جديد هذه الظواهر ما أشار إليها كبير المعلقين السياسيين في قناة التلفزة الإسرائيلية 12 (القناة الثانية سابقاً) الأكثر مشاهدة، أمنون أبراموفيتش، وهي تزايد الطلب على جوازات سفر أجنبية.
ومما كتبه أبراموفيتش في هذا الشأن (يديعوت أحرونوت، 14/5/2019): ما من رصيد مطلوب في البلد خلال العقد الأخير أكثر من جواز السفر الأجنبيّ. ثمّة أعدادٌ هائلة من المواطنين، الأشكناز والشرقيين، اليمينيين واليساريين، الذين باتت بحيازتهم جوازات سفر أجنبية، والحبل على الجرّار. وتقف وراء هذه الظاهرة أسباب يتم إفصاحها والحديث عنها، بدءاً بتقصير طابور الانتظار في المطارات، مروراً بالدراسة المجانية، وانتهاء باعتبارات دفع الضرائب. ولكن هناك في العُمق سبب مسكوت عنه: انسداد كوة الأمل، فناسٌ كثيرون ما عادوا يؤمنون بأن إسرائيل ستنجح في البقاء عقوداً كثيرة.
ويحصر المعلق سبب انسداد كوّة الأمل في انتهاج الحُكم الحالي سياسةً تؤول إلى تحوّل إسرائيل، في المستقبل المنظور، إلى دولة ثنائية القومية (على خلفية مساعيها الرامية إلى ضم الأراضي الفلسطينية المحتلة في 1967)، بالإضافة إلى تحوّلها إلى دولة دينية أكثر، في ضوء التغيرات الديموغرافية التي تشير إلى ارتفاع نسبة المتدينين المتزمتين (الحريديم) بين السكان اليهود. وبموجب آخر توقعات المكتب المركزي الإسرائيلي للإحصاء، سيصبح أولاد هؤلاء نصف مجموع الأولاد في إسرائيل في غضون جيلين اثنين فقط.
قبل هذه الأقوال، أبرزت صحيفة هآرتس، في سياق تلخيص نتائج آخر انتخابات عامّة، استنتاجات بحث صادر عن "معهد شورش للدراسات الاقتصادية - الاجتماعية"، يفحص حصيلة الانتخابات الإسرائيلية منذ أعوام عديدة، وعرض فيه، على نحو مفصّل، الحصاد الاقتصادي الذي سينجم عن تلك التغيرات الديموغرافية. مُوضحاً أن الردّ السائد الذي يقول إن مجتمع "الحريديم" يشهد عمليات تغيير لناحية مزيد من العصرنة والانفتاح، وإن الآلاف من أبنائه يرغبون بالحصول على دراسة أكاديمية، هو مجرّد هراء. ومؤكداً أن أغلبية أبناء هذا المجتمع ستستمر في عدم تعلّم المواضيع الأساسية، مثل اللغات والرياضيات التي يمكنها أن تتيح لهم فرصاً تشغيلية عندما يصبحون بالغين. وهو ما رأى رئيس تحرير الصحيفة أنه يعني "تضييع نصف الأولاد هنا وقتهم في تعليم ديني لا قيمة معاصرة له". يُضاف إلى هذا أن التلميذ الذي لم يدرس لغات ورياضيات في طفولته، سيكون من الصعب عليه جداً أن يردم الفجوة، وهو في سن العشرين، ما يلوّح في قراءته إلى أن "إسرائيل تربّي جيلاً كاملاً من الجهلة غير المتعلمين الذين يطيعون وصايا الحاخامين"، خالصاً إلى القول إنه "لا توجد وصفة أكثر وضوحاً من هذا للمُضي في طريق الانتحار الاقتصادي والسياسي".
فضلاً عمّا تقدّم بالإمكان الإشارة إلى ما يلي: استعاد بعضهم أخيراً مقولة الزعيم الصهيوني، شمرياهو ليفين، إنّ "إخراج اليهود من الدياسبورا أسهل كثيراً من إخراج الدياسبورا منهم"، وذلك في معرض قراءة دلالة التعامل الراهن لمعظمهم مع سلطات تطبيق القانون بأنها عدوّ في "دولتهم السيادية"، على غرار نمط تعاملهم مع هذه السلطات في الدياسبورا (الشتات).
ولعلّ أحد أهم أسباب عدم التخلّي عن أنماط التعامل في "الدياسبورا" راجع إلى جملة التناقضات بين مزاعم تلفيقية، أطلقتها الصهيونية، وهي تروّج غاية استعمار فلسطين، وبين معطيات أكيدة تفقأ العين في أرض الواقع الآن. ومن هذه المزاعم ما "بشَّر" به هيرتزل في روايته "ألطنويلاند"، حين ذكر، وهو يحاول أن يؤمثل الواقع في فلسطين لإغراء اليهود في "الدياسبورا" للهجرة: "إننا نرى هنا (في فلسطين) صورة جديدة لحياة مجتمع جديد منظم لإسعاد الناس أكثر مما كانوا عليه في السابق". فأين الما بعد الحقيقي من ذلك الما قبل المُفترض؟