بقلم: د. وليد القططي
المتسادا قلعة رومانية قديمة على مرتفع صخري بارز شرق صحراء النقب، تطل على البحر الميت، استولى عليها ما يقرب من ألف يهودي، بعد أن هربوا من قمع الرومان للتمرد اليهودي في القدس عام 72 للميلاد، فلحق بهم الجيش الروماني وحاصر القلعة بضعة شهور، إلى أن تمكن من فتح ثغرة في جدارها، فأصبح اقتحام القلعة وشيكاً، حينها أقدم اليهود المتحصنين في القلعة على الانتحار الجماعي بقتل بعضهم بعضاً أو ما تبقى منهم بعد المعركة مع الجيش الروماني كي لا يقعوا في الأسر حيث المهانة والقتل. الرواية تُنقل عن المصادر اليهودية القديمة، والإسرائيلية الحديثة، في إطار الدعاية الصهيونية، كشاهدٍ على البطولة اليهودية، وكفاح اليهود من أجل الحرية والكرامة، وأحقية اليهود في فلسطين. ونحن نذكرها في هذا السياق كشاهدٍ على حتمية تدمير المتسادا الكبرى المُسماه (إسرائيل) كما دُمرّت المتسادا الصُغرى، والطريق إلى المتسادا الحديثة يسير عبر ممر إجباري ينطلق من وعد بلفور، ليحط رحاله في وعد الآخرة.
من وعد بلفور إلى وعد الآخرة طريق طويل ينتهي بالمتسادا، ويمر بمحطات تاريخية عديدة أهمها: صك الانتداب عام 1922م، وفيه تحوّل وعد بلفور من وثيقة بريطانية قيمتها محدودة، إلى وثيقة دولية بعد أن دُمج الوعدُ في صك الانتداب، ليصبح قراراً دولياً صادراً من (عُصبة الأمم) وتُكلف بتنفيذه الدولة المُنتدبة (بريطانيا) على فلسطين. والمحطة الثانية هي قرار التقسيم الصادر عن (الأمم المتحدة) عام 1947م، الذي أعطى (56%) من أرض فلسطين للحركة الصهيونية كخطوة عملية نحو تطبيق وعد بلفور، وكانت المحطة الأهم على طريق تحويل الوعد إلى حقيقة هي إعلان قيام دولة (إسرائيل) عام 1948م، كتجسيد فعلي لوعد بلفور، ولكن الحُلم اليهودي والمشروع الصهيوني لم يكتمل بدون السيطرة على القدس (أورشليم)، فكانت حرب حزيران عام 1967م، والسيطرة على الأقصى الشريف (هار هبيت)، تمهيداً لإعادة بناء (الهيكل الثالث) وفق الأوهام اليهودية.
بعد الاعتراف الدولي بدولة (إسرائيل) كتجسيد عملي لوعد بلفور، جاء دور الاعتراف العربي ثم الفلسطيني بالدولة التي وُلدت من رحم الوعد المشؤوم. فوقّعت مصر – كُبرى الدول العربية – اتفاقية كامب ديفيد مع (إسرائيل)، فكان الخرق الأول في جدار الرفض العربي لشرعية وجود الكيان، وفَّر الثورُ من الحظيرة، وبعد عام وقعت حادثة مثيرة، لم يرجع الثور، ولكن ذهبت وراءه الحظيرة، ولكن ثورنا كان أكثر ثورية وأعمق وطنية، فقد لحق بالثور الفار بعد خمسة عشر عاماً من الزمن، هي المدة الكافية للتحوّل من الواقعية الثورية إلى الانتهازية الثورية، أو في مذهب آخر يُمكن اعتبارها نوعٌ من الانبطاحية وضربٌ من الانهزامية.
فكانت اتفاقية أوسلو عام 1993م، والتي اعترف فيها من يملك الأرض بأحقية اللص الذي لا يستحق الأرض بشرعية ملكية لـ (78%) من أرض فلسطين، بخلاف وعد بلفور الذي أعطى من لا يملك الأرض لمن لا يستحقها. حتى وصلنا إلى ما يُعرف بـ(صفقة القرن)، كآخر حلقة في تجسيد وعد بلفور وقد تكون آخر محطة على طريق وعد الآخرة وتحقق المتسادا اليهودية، ووعد ترامب الجديد المعروف بصفقة القرن ينتقل من إدارة الصراع لصالح الكيان الصهيوني – كما فعلت الإدارات الأمريكية السابقة- إلى إنهاء الصراع لصالح الكيان الصهيوني بتفكيك محاور الصراع ابتداءً بإعلان نهاية حل الدولتين، وانتهاء بالقضاء على الأونروا وقضية اللاجئين، مروراً بالاعتراف بالقدس كعاصمة موّحدة لدولة (إسرائيل).
من وعد بلفور إلى وعد ترامب، لم يبق سوى وعد الآخرة، فإن كان وعد بلفور وعداً بشرياً ظالماً منح فيه من لا يملك الأرض لمن لا يستحقها فهو وعد باطل وزائل، فإن وعد الآخرة هو وعد إلهي عادل وعد فيه من يملك الكون أن ينصر من يستحق النصر ويُمكن في الأرض، وهو وعد حق باقٍ إلى أن يتحقق، وهو موّثق في القرآن الكريم الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد جاء في موضعين: بداية ونهاية سورة الإسراء بقوله تعالى: " فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ ..." "... فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا" فوعد الله تعالى للمسلمين بتدمير الإفساد والعلو الإسرائيلي الثاني ثابت على اختلاف بين المفسرين في زمن الإفساديين أو في مرحلة " وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا " أي إن عدتم إلى الإفساد يا بني إسرائيل عُدنا إلى التدمير، فالنتيجة واحدة هو إن نهاية الإفساد والعلو الإسرائيلي الحالي هو التدمير على يد المؤمنين " عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ " أو بالتدمير الذاتي " يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ " وبذلك تتحقق المتسادا مرة أخرى على أرض فلسطين.